كانون الأول (ديسمبر) 2008
لو استطاع أحد في الكون أن يلج إلى بطون المنازل المتعددة الأنواع والأشكال والتي تقطنها عائلات من مختلف الأجناس والأعراق والألوان، وقُيِّض له أن يكتشف ما في دواخلها، ويستجلي أسرار مكنوناتها، ويتأمل في أفضليات محتوياتها لتملّكه العجب العجاب! فلكل من هؤلاء القاطنين أعرافه ومعتقداته، وكل له أشخاصه وزائروه المفضّلون: محدّثون أو مهرّجون، صادقون أو متقوّلون، عقلاء أو جاهلون، عظماء أو محتقرون!
من المؤكد أن صاحب المنزل الذي حلّت فيه المباركة مريم العذراء مع خطيبها يوسف النجار ليلة الميلاد المجيد لم يكن يعرف شيئاً عن زائره المرتقب. من هو؟ ما هو مركزه وسلطانه؟ ما أهمية وجوده في الزمان والمكان؟
وربما لو عرف ذلك الإنسان الذي أغفل الإنجيل ذكر اسمه ليكون ممثلاً لكل بني الإنسان في تعاملهم مع المسيح ومع وجوده في حياتهم؛ لو عرف حقيقة ذلك المولود لتصرف وفق أحد طريقين لا ثالث لهما، كما يفعل الكثيرون من الناس بخصوص قبولهم أو رفضهم لذلك الزائر الكريم رغم كل بركات وجوده وقداسة محضره... فلربما خاف كما يخاف البعض فيفضلون الابتعاد عن المسيح مدّعين بأنه يعقّد حياتهم ويسبب لهم الاضطهاد والمشاكل الكثيرة وهم في غنى عن كل ذلك، سيما وأن ذلك الإنسان الذي استضاف العذراء وطفلها كان يخاف الرومان المتسلطين مع ملوكهم وولايتهم في المنطقة من جهة وسلطة الكتبة والفريسيين الذين ادعوا أنهم أوصياء على روحانية الشعب في تلك الأيام.. وأكبر دليل على ذلك ما فعله هيرودس حين قتل أطفال بيت لحم وما تصرف به الكتبة والفريسيون الذين طالبوا هيرودس بصلب المسيح! أو ربما كان من النوع الآخر الذي رحّب بالمسيا المنتظر وكان يشتاق إلى موعده من كل القلب ليملأ حياته بالخير والسلام ويشبع نفسه بنعمة الخلاص، مُعرضاً عن كل ما يمكن أن يتحمّله في سبيل ”معرفة المسيح وقوة قيامته وشركة آلامه“... إذاً لخصص له أجمل وأكرم مكان في منزله ذاك. ولكن يسوع له المجد لم يشأ أن يعلن عن شخصه بأنه الزائر السماوي العظيم فقَبِل أن يولد في أدنى مكان تعتبره الناس ولا يليق أن يولد فيه أبناء البشر.
مذود البقر ومكان طعامها ارتضاه الرب مهداً له لكي يعطي من بركات ميلاده المجيد لأولئك الذين ليس لهم موضع في منازل أغنياء هذا العالم؟
أما أنا وأنت قارئي الكريم فما هو موقفنا من ذكرى ميلاد الفادي ومجيئه إلى أرضنا المحكومة باللعنة لكي يرفع عنا عقاب الخطيئة ونتائجها الوخيمة فيجعلنا خلائق جديدة في مسلكها، وأحكامها، وتوجهاتها، وتقييمها لذلك الحدث العظيم الجليل!
أين هو الموضع الذي نخصصه له في بيتنا، في أفضلياتنا، في قلوبنا وضمائرنا؟ بل أي موضع أعددناه لذلك الفادي المحب يليق بالكرامة التي له كزائر جاء من السماء حاملاً لأهل هذه الغبراء كل الحب والخير والإحسان؟
نقرأ في الإنجيل المقدس: ”وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ [يوسف ومريم] تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ“ (لوقا 6:2-7).
فكل من سمع عن شخص المسيح مسؤول مسؤولية كاملة أمام الله بأن يتأكد من إرساليته، وسموّ مقامه، وغاية مجيئه، ويختبر نعمته الغنية، وخلاصه العظيم، باحثاً في تصرفاته، وأقواله، وأفكاره عن الموضع الذي يستقبل فيه الرب يسوع في ذكرى ميلاده.
1- هل هو موضع يليق بحبه وحنانه ولطفه العجيب؟
هنالك الكثير من الذين يعترفون بالفضل والإحسان ويردّون قدر استطاعتهم صدى تلك المحبة التي أحبهم بها يسوع، كما أن هنالك الكثير من الجاحدين المنكرين لفضل المسيح، وقوة خلاصه، وغنى نعمته المجانية، ومحبته الفائقة. قد يخجل البعض من عدم مقابلتهم المعروف والإحسان بالمعروف والإحسان بل بالأحرى بالاعتراف وعدم النكران، فما بال الذين ما زالوا ينكرون كل ما خصّهم به الرب من بركات كالصحة، والأمان، والنجاح، والغنى، والكرامة، وما أتاحه لهم المسيح من التمتّع بنعمة الخلاص والغفران والحياة الأبدية. يقول الكتاب: ”وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا“ (رومية 8:5). وأيضاً ”أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، لأَنَّهُ قَدْ غُفِرَتْ لَكُمُ الْخَطَايَا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ“ (1يوحنا 12:2). وكذلك ”وَهذِهِ هِيَ الشَّهَادَةُ: أَنَّ اللهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ فِي ابْنِهِ. مَنْ لَهُ الابْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ“ (1يوحنا 11:5-12).
2- هل هو موضع يليق بجلاله وعظمته؟
يفتخر البعض باستضافة الأغنياء والعظماء في بيوتهم حتى ولو كان هؤلاء من ذوي المسالك الرديئة. وبعضهم يفتخر باستضافة رجال الدين تبرّكاً بقدسيتهم ويهمل الكثيرون منهم أن يجعلوا في بيوتهم موضعاً لمن به تملك الملوك، وتترأس الرؤساء، والذي هو في قداسته وعظمته أعلى من السموات. يقول كاتب رسالة العبرانيين: ”لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ“ (عبرانيين 26:7). وأيضاً يقول الرسول بطرس: ”لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْدًا، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ“ (2بطرس 16:1-17).
3- هل هو موضع يليق بسيادته وسلطانه؟
يرفض سلاطين هذا الدهر أن يشاركهم آخرون في السيادة على شعوبهم ورعاياهم كما ترفض الشعوب كلها تسلط الغرباء! وما مقاومة الاستعمار في كل أنحاء العالم إلا دليل قاطع على مشاعر التوحّد وتركيز الولاء لمن هو أولى به، فأي شعب من الشعوب يحلّ فيه الخراب إذا ما تشعبت ولاءاته الأرضية، فما أدراك إذاً بولاءات القلوب؟ كما يقول الرب على لسان إشعياء النبي: ”أَنَا الرَّبُّ هذَا اسْمِي، وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ...“ (إشعياء 8:42). ويقول على لسان يوحنا البشير: ”خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي“ (يوحنا 28:10).
4- هل هو موضع يليق بإكرامه والتعبّد لشخصه؟
كثيرون يحلّون المسيح في منزلة القدوس البار القادر على إحياء الموتى، وشفاء المفلوجين، وفتح أعين العمي، ويجاهرون بالولاء لسلطانه وسيادته ولكنهم لا يُحلّونه في منزلة المعبود كالابن الإلهي، الأقنوم الثاني في اللاهوت المساوي للآب في الجوهر. والرسول بولس يكتب بالروح القدس إلى أهل فيلبي مبيناً مركز المسيح الإله: ”لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ“ (فيلبي 9:2-11).
وأخيراً وليس آخراً، فقد حلّ صاحب المجد الرفيع في ذلك المكان الوضيع فأصبح المذود في مغارة بيت لحم، مع بستان الجثسيماني، وتلة الجلجثة، وقبر الرامي أقدس أماكن في الكون لم يرفع فيها علم ولا صنم، ولم يعبد فيها قط شجر أو حجر، لأن رب المجد قد أضفى عليها من قدسية وجوده، وطهر حضوره فصارت محجة للملايين من كل أقطار الدنيا رمزاً لعظمة قدرته السامية، وتواضعه العظيم مع غنى نعمته المخلّصة والمغيّرة لما في النفوس بغفرانه الكريم وشمولية حبه المستديم.
عزيزي القارئ، يفرح الكثيرون في مناسبات الميلاد المتكررة بأن تمتلئ بيوتهم بالزينات، والأضواء، ومظاهر الابتهاج والتكريم حتى لا يبقى هناك مكان لشيء آخر، ولكن لتكن صلاتنا إلى طفل المذود الكريم ابن الله المتجسد لكي يملأ قلوبنا بشخصه الحي بكل كرامته ومجده، وبسلطان لاهوته وعظمته حتى لا يبقى هناك مكان لأي شيء أو أي شخص آخر، وله كل المجد إلى الأبد، آمين.