أيار (مايو) 2008
في الأسبوع الأخير من حياة المسيح، قرب عيد الفصح، وأورشليم مزدحمة بالحجاج والزوّار، دخل يسوع إلى مدينة أورشليم راكباً على جحش في مظهر بسيط وسط التهاليل الدينية. وتمت نبوة زكريا (زكريا 9:9)، وأنجز رسالة ملاخي (ملاخي 1:3). إن كان يسوع مجرد إنسان، فيا لخيبة الأمل، ولكن إن كان هو ابن الله فهذا يعني أن "كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان".
إنه عمانوئيل، رئيس السلام، الطريق والحق والحياة، الرب والسيد، الفادي والمخلص، النبي والملك والكاهن، نور الحياة، وخبز الحياة، حكمتنا، وقداستنا، وبرنا، ووسيطنا. إنه الشخصية العجيبة التي دائماً تثير أسئلتنا وحب استطلاعنا وتأملنا. وفي دخوله ثارت ثلاثة أسئلة تحمل غايات ثلاث:
أولا: سؤال عن طبيعته
فعندما ارتفعت أغصان الزيتون وسعوف النخيل وشقت الحناجر الأنفاس المكبوتة والصمت المميت، قدّمت الجماهير تحية للزائر العظيم: "مبارك الآتي باسم الرب" وهي اقتباس من (مزمور 118). وكانت ترنم في عيد الفصح وعيد المظال "أوصنا في الأعالي" أي خلصنا الآن، لتصرخ الملائكة في العلاء منادية الله أيضاً خلصنا الآن. أوصنا لابن داود أي خلصنا يا وارث العرش، أو كما يقال: يعيش الملك ابن داود وارث العرش (مزمور 10:11). فالمسيح ابن داود "الملك، وابن الله الرب، وابن الإنسان، والنبي". لقد دخل المسيح إلى أورشليم في اليوم الذي يوضع فيه خروف الفصح في بيت الإسرائيلي للاحتفاظ به لليوم الرابع عشر استعداداً لذبحه في العيد، أي كان ذلك اليوم العاشر من إبريل.
وعندما دخل الى المدينة كان راكباً على جحش "لم يجلس عليه أحد من الناس قط" (لوقا 30:19). لأن التابوت قديماً - وهو رمز لحضور الله وسط شعبه - كان يُحمل على عجلة جديدة تجرّها بقرتان لم يعلهما نير (تثنية 3:21 ). ثم إن الناموس قد اشترط أن البقرة الحمراء التي تقدَّم ذبيحة الخطية للتطهير "لم يعلُ عليها نير" (عدد 2:19، تثنية 3:21). ووضع التلميذان ثيابهما على الجحش لأن السيد لم يكن يملك "سراجاً" لكنه كان يملك القلوب المكرسة. وكان الأولاد يصرخون في الهيكل، مما أغضب رؤساء الكهنة والكتبة وقالوا له: أتسمع ما يقول هؤلاء؟ وهنا يأتي بهم المسيح الى ما جاء عنه في مزمور 8: 2 "من أفواه الأطفال والرضع أسّست حمداً بسبب أضدادك لتسكيت عدو ومنتقم". وبهذا لفت المسيح نظر اليهود الى أنه هو من تمت فيه النبوات "أما قرأتم قط من أفواه الأطفال والرضّع هيّأت تسبيحاً"، لمن؟ "أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض …" وهنا يكشف المسيح عن طبيعته الإلهية.
قيل عن شخص صنع تمثالاً ليسوع وأراد أن يختبره فأحضر طفلاً وسأله: لمن هذا التمثال. أجاب الطفل: ليسوع الذي يدعى المسيح الذي قال: دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات“. فاطمأن أنه يصلح للمسابقة.
دخل المسيح فارتجت المدينة كلها. وهكذا يدخل يسوع البيوت فيُحدث انقلاباً روحياً، وإذا فتحنا له القلوب فإنه يجري تغييراً جذرياً، وإذا رحّبنا به في الأمم فإنه يثير انتعاشاً إلهياً. "البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية". وسألت الجموع: من هذا؟
ثانياً: سؤال عن تعليمه
ودخل يسوع إلى دار الأمم وهي جزء من الهيكل، أو قل الدار الخارجية حيث قامت تجارة الصيارفة وتجارة باعة الحمام، وقد كان الحمام يُستخدم عند التطهير بعد الولادة، أو تطهير الأبرص بعد شفائه تماماً (لاويين 19:12، 22:8، 14:15-29). وهنا يتدخل الصيارفة فيغيّرون العملات بربح فاحش لا سيما وأن الكهنة الذين كانوا يحكمون بصلاحية الذبيحة، وأنها بلا عيب، كانوا يوجهون أنظار الشعب للشراء من داخل الهيكل، فوقع الناس ضحية للسلب والاستغلال.
وعلم يسوع الجموع بأن بيت الله هو بيت الصلاة لكل الشعوب (إشعياء 7:56، إرميا 11:7). وفي الصباح جاع، فنظر شجرة تين مورقة بلا ثمر فلعنها. ويبست التينة في الحال، ولم يلاحظ التلاميذ ذلك إلا صباحاً. ولشجرة التين مكانة خاصة بين الأشجار كتابياً، وتشير إلى أرض الميعاد "أرض حنطة وشعير وكرم وتين" (تثنية 8:8، عدد 23:13). وهي صورة للرخاء والسلام (1ملوك 25:4، ميخا 4:4، زكريا 10:3). وتنفرد شجرة التين بمحصولين خلال العام، وفي شهري إبريل وسبتمبر تظهر براعم خضراء صغيرة فقط. هذا يدل على أن الشجرة كانت معطوبة مما جعلها تورق في غير أوانها. "فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد فقال: اقطعها لماذا تبطل الأرض أيضاً". وهنا أراد أن يعلمهم أن عدم الثمر والنضج يؤديان إلى الموت، ثم إن الحياة التي تهتم بالمظهر دون الجوهر هي موضوع دينونة الله وقضائه العادل، لأن أشجار التين تعطي ثمرها أولاً ثم تمتلئ بالأوراق. لذلك فإن وجود الورق دليل على الإثمار. وسأل التلاميذ: كيف يبست التينة في الحال؟ ويعطي الرب درساً عن الإيمان المعجزي. ومن الطريف أن نعرف أن معنى كلمة "بيت فاجي" في الآرامية هو بيت التين، أما معنى كلمة "بيت عنيا" في الآرامية فهو بيت البؤس أو النحس، فلا كان شعب الله مثمراً بل بئساً نحساً.
لقد أرسل الرب التلميذين بمعلومات وحقائق دقيقة إلى القرية، وفي استخدام الرب النبوات القديمة وتطبيقها دلالة على الجدارة للقب "المعلم"، لذلك ”إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ (لوقا 40:19، حبقوق 11:2). لقد يبّس التينة ليعطي درساً، لكنه بكى على المدينة وأعدّ خلاصاً. أي معلم هذا يا ترى؟!! من هذا؟!!
من أقوال نيتشه الألماني هذه العبارة: إنه لعار على رجل القرن العشرين أن يتلفظ بكلمات الرحمة والمحبة، لأن الرجل الذي نادى بها كان جباناً ذليلاً، ويعني بذلك يسوع. وها قد انقضى ما يقرب عن نصف القرن الذي يتباهى به. وكم كنت أتمنى لو أن نيتشه وهو الملهم الروحي لغليوم وهتلر لم يمت في مستشفى المجاذيب، بل عاش الى اليوم ليذوق بنفسه مرارة الكأس التي يتجرعها العالم نتيجة تعاليمه. ولقد ثار سؤال ثالث هو:
ثالثاً: سؤال عن سلطانه
أو بأي سلطان تفعل هذا؟.. هل تثير في المدينة انتعاشاً وارتعاشاً؟ وهل تقبل تسبيحاً وتهليلاً؟ وتطرد التجار والباعة طرداً؟ وتيبّس التينة أصلاً وفرعاً؟ وكأن الكهنة والكتبة يسألون يسوع عن طبيعة رسالته، أهي بشرية أم إلهية؟ ثم من هو الوسيط الذي سلّمه المعرفة والعلم؟ أجابهم يسوع بسؤال عن يوحنا المعمدان ليس هرباً بل لأن يوحنا كان شاهداً للمسيح، وسلطان كليهما مرتبط معاً، وخدمة يوحنا لم تؤثر في قلوبهم. ووقعوا في الفخّ الذي نصبوه فأصبح القاضي متهماً، والمذنب بريئاً، والمسيح سيداً ونذيراً. فإن اعترفوا بيوحنا، يجب عليهم الإيمان بمن يأتي بعده أي المسيح لأنه قيل عن يوحنا "هأنذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي. ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرّون به. هوذا يأتي قال رب الجنود“ (ملاخي 1:3). ولكنهم خافوا الناس إذ علموا أن الشعب يؤمن بأن دعوة يوحنا هي من فوق. فاستجهلوا أنفسهم ولذلك قال يسوع لهؤلاء الجبناء: "ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا".
كان الدكتور باركر يتكلم يوماً عن موسى وفرعون فقال: إذا أخذنا الله ملجأ فلا يلزم أن نخاف ما يصنع بنا الإنسان. قال العدو: أتبع أدرك غنيمة ولكن الصوت من السماء - صوت صاحب السلطان المطلق- قال: أنا سألقي العدو في البحر، وتغطيهم اللجج. إن ذاك الذي أتى إلى أورشليم وأظهر بصيصاً من سلطانه لسوف يأتي مع ربوات قديسيه جالساً على عرش قضائه، وسوف نطرح عند قدميه ثيابنا بل تيجاننا وأكاليلنا. يُقال أن زوجة مودي سألته: هل ستعرفني في السماء؟ فأجابها: نعم. فقالت: وهل تأتي لتراني؟ فأجابها: نعم، إنما بعد مئات من السنين. فاندهشت وسألته: وكيف تصبر كل هذه المدة؟ فأجابها: حتى أتملى برؤية فاديّ أولاً، وبعدئذ أهتم بأمرك.