Voice of Preaching the Gospel

vopg

أيار (مايو) 2008

وحوالي الساعة السادسة مساء غادرت قمرتي إلى قاعة الطعام، وجلست وحيداً أتناول وجبة العشاء، وخامرني حس مبهم بخطر يدنو مني خفية، وكأنما يد مجهولة ستمتدّ في غفلة لتقبض على عنقي وتخنقني.. وبغتة سمعنا دوياً مريعاً اهتزّت له السفينة، وطفقت الأمطار تنهمر بغزارة، وارتفعت جبال من الأمواج مخيفة، ولم نلبث أن سمعنا صوت قبطان السفينة يخاطبنا من خلال العاصفة:

 

- سيداتي، سادتي، لقد هبت العاصفة؛ أرجو منكم أن تمكثوا في قمراتكم في هذا المساء.

فأسرعت ألتهم بقية طعامي، ثم عدت إلى قمرتي وقد خالجني الخوف، ولعلي تساءلت لأول مرة:

- هل يمكن لهذه السفينة أن تتحمّل عنف الأمواج وتصل بنا سالمين إلى بيروت؟

وتطلعت من نافذة قمرتي إلى السماء المتلبّدة بالغيوم الداكنة، فازداد فزعي، وبدا لي أن هذا البحر الثائر سيكون ضريحي، واتصلت حلقات تفكيري في سلسلة لامتناهية تتراقص فيها أسئلة ما كنت أعبأ بها فيما مضى من الأيام، كان آخرها:

- ماذا يحدث لي لو غرقت في هذه الليلة؟ ماذا سيكون مصيري؟

وأحسست بدبيب الموت يسري في جسدي؛ وكأنما هذا الإحساس جعلني أثور على نفسي لما خالجها من خور، فهتفت:

- لا، لا، إنها عاصفة عابرة وستهدأ عما قليل.

وانقضت الساعات والعاصفة تزداد ضراوة ووحشية، والسفينة تهتزّ تحت ضربات الموجات فتتقاذفها كالكرة. وبين الفينة والفينة كان صوت الربان يرتفع فوق عويل العاصفة، يكرر نداءاته السابقة ويطلب من المسافرين البقاء في قمراتهم في انتظار التعليمات المتلاحقة.

وحوالي الساعة الثالثة صباحاً أرهقني العياء فنمت، ولم أدرِ ما حدث في غضون اللحظات التي غبت فيها عن عالم اليقظة، ولكن كل ما أعرفه أنني استيقظت على يدٍ تهزّني بعنف وسمعت صوتاً يقول لي:

- استيقظ، انهض، إن السفينة تغرق.

بادئ بدء، لم أعِ لهذه الكلمات معنى. وفجأة لاح عليّ الرعب بعد أن اخترقت ألفاظ هذه العبارة دماغي المتخدّر، فهتفت وجلاً:

- السفينة تغرق.. السفينة تغرق..

ونظرت إلى محدّثي، وإذا به السيد براون، ورأيته يهزني بشدة صائحاً:

- أسرع قبل فوات الأوان.

فهرولت معه إلى سطح السفينة، فوجدتها تكاد تكون مهجورة إلا من بعض البحارة والربان والسيد براون وزوجته وطفل وأنا.. أما بقية الركاب فقد نزلوا إلى قوارب النجاة ولم يبقَ سوى قارب واحد اكتظّ بالمسافرين، وقال ربان السفينة لأحد البحارة في القارب:

- لا يزال هنا أربعة ركاب.

فأجابه البحار:

- لا مكان لدينا لأكثر من راكبين.

فبدت الحيرة على محيّا الربان، ثم قال بعد تردّد:

- يجب أن نُنْزِل الطفل والسيدة أولاً.

فغاص قلبي بين أضالعي، وفكرت: هذه هي النهاية التي لم نكن نرتقبها. وشعرت بالذعر يطغى على نفسي حتى كدت أصرخ. ولكن السيدة براون احتجّت على كلام الربان والتصقت بزوجها قائلة:

- لا، انزل الطفل، وهذا السيد، أما أنا وزوجي فسنبقى معاً هنا.

وعلى الرغم من شعوري بالارتياح - وهو ارتياح اشمأزَّتْ منه نفسي فيما بعد - حاولت أن أعترض، ولكنها التفتت إليّ وقالت:

- إنني لن أترك زوجي لحظة واحدة. لقد عشنا معاً وسنموت معاً.

وبينما كانت تحدّثني تمكّن الربّان من إنزال الطفل إلى القارب، ثم دنا من السيدة براون وقال:

- هيا يا سيدتي، لقد جاء دورك.

ولكنها هزت رأسها، وازدادت التصاقاً بزوجها؛ فتفاقمت حيرة الربان ولم يدرِ ما يفعل، ونظر إلى السيد براون يستغيث به لعله يقنع زوجته، ولكن السيد براون اقترب مني ووضع يده على كتفي، وقال بصوت هادئ مفعم بالثقة:

- انزل إلى قارب النجاة يا بنيّ، فلعلّ هذه هي فرصتك الوحيدة للنجاة من الموت الأبدي. أنا واثق من مصيري وكذلك زوجتي، ونحن نعلم يقيناً أن السماء في هذه اللحظة قد فتحت أبوابها لتستقبل نفسين مفديتين بدم المسيح. أما أنت إذا مت فماذا يكون مصيرك؟ إننا نحب الحياة يا بنيّ، ولكن عندما يدعونا إلهنا إليه نلبي نداءه بفرح.. إننا لن نموت، بل ننتقل من حياة إلى حياة.

وابتسم في محيّاي وأخذ يلحّ عليّ كي أنزل إلى قارب النجاة، وسمعت صوت البحار يعلو زئير الأمواج:

- يجب أن نذهب قبل أن تغمرنا الأمواج. هيا..

ورأيت نفسي، وكأنني في حلم، أنزل إلى قارب النجاة وعيناي معلقتان بمحيّا السيد براون وزوجته.. لم أرَ سواهما في تلك اللحظة، ولم أعد أسمع هدير الأمواج أو نواح العاصفة، بل إن السفينة تلاشت من مخيلتي ولم أشاهد سوى وجهَي هذين الزوجين يملآن الكون كله أمام عينيّ. كنت أهبط إلى القارب وكلي مسمّر بهما.

ثم ابتعد بنا القارب شيئاً فشيئاً عن السفينة المحطّمة، ولمحت عبر ضباب عبراتي أيدياً تلوح لنا من فوق السفينة، ثم احتجبت عنا خلف الأمواج الهائلة.

وبعد ثلاث ساعات صارعنا فيها الأمواج، شاهدنا سفينة أخرى تقترب منا، التقطتنا من جحيم البحر، ووجدت نفسي، بعد قليل، أجلس إلى جوار البحَّار الذي كان يوجّه قارب النجاة. وتطلّع إليّ برهة ثم سألني:

- أكنت تعرف السيد براون قبل الآن؟

- لا، لماذا؟

- يبدو أنه اكتشف في آخر لحظة أنك لست بين الركاب فأبى أن ينزل إلى قارب النجاة قبل أن يعثر عليك، وهكذا امتلأت قوارب النجاة حتى لم يبقَ له ولزوجته متسع.

فوضعت رأسي بين يديّ، وعضضت على شفتيّ خوفاً من أن تنطلق من صدري صرخة مجنونة، وتفجّرت من عينيّ عبرات غزيرة.. يا إلهي، لماذا فعل السيد براون هكذا؟ لماذا بذل هو وزوجته نفسيهما من أجلي؟ وجاءني الجواب بكل بساطة:

- لأنه يريد لك الحياة والنجاة من العذاب الأبدي.

مرة أخرى فقدت إحساسي بالزمان والمكان، وشردت في متاهات أرض بكر عبر عصور من تاريخ الجنس البشري إلى تلة مرتفعة خارج أسوار مدينة أورشليم حيث سُمّر على خشبة رهيبة من دعا نفسه بابن الإنسان.

عندما بلغنا أول ميناء، وبعد أن تمت الإجراءات الرسمية المألوفة، أسرعت أبحث عن بائع صحف، ولشد ما راعني أن أقرأ فيها أن سفينة الإنقاذ التي التقطت إشارة الاستغاثة قد وصلت متأخرة فلم تتمكن من إنقاذ من بقي على سطح السفينة الممزّقة، فهرعت إلى حجرتي في الفندق الذي نزلت فيه، وانطويت حزيناً، كئيباً، تثقل صدري أحزان لا تُطاق، وابتدأت المرئيات المروعة تحرق رأسي كجمرات لاهبة، فأحسّ بذاتي تتداعى أمام هذه الصور، بل يمكن القول أنه لم يكن بيني وبين الجنون إلا خطوات.

مات السيد براون وزوجته من أجلي. كان يمكن أن أموت أنا، ولكنهما أرادا لي الحياة بفعل محبة لا يمكن أن تخالج سوى قلب المؤمن.. وتمتمت:

- لقد دفع السيد براون وزوجته ثمن نجاتي غالياً؛ ماتا من أجلي كي أحيا أنا..

رباه، ماذا أستطيع أن افعل؟

والواقع أنني لم أكن أفتقر إلى جواب لأنني عرفت الحقيقة منذ اللحظة التي تحادثت فيها مع السيد براون.

وحدّق ”كمال يونس“ بالمحرّر بعينين وامضتين وقال بصوت عميق ينبض بكل ما في نفسه من مشاعر الذكرى:

- منذ ذلك الحين ابتدأت حياة جديدة محورها المسيح.

وهيمن عليهما صمت مفعم بالخشوع لم يقطعه سوى صوت ”كمال يونس“:

- هذا هو أعظم حدث في حياتي.

- إنه حدث غريب مدهش.

- نعم، إنه مدهش.

وتجاوبت دقات الساعة في الردهة المجاورة، فنهض ”كمال يونس“ وقال:

- لقد حان أوان الحفلة، هيا بنا.

وبينما كان يغادر مكتبه، ألقى نظرة أخيرة عليه، ثم تنهّد بعمق، ولحق بالمحرّر إلى قاعة الاحتفال.

المجموعة: 200805

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

105 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10573979