تشرين الثاني (نوفمبر) 2008
قيل في علم فلسفة التاريخ أن التاريخ لا يمكن معرفة صدق أحداثه، أو تصحيح رواياته، أو تحقيق مسار سجلاته، إلا بعد خمسين سنة من جمع الوقائع المدرجة والأطوار الحضارية والآراء المغرضة - أي بعد التمكن من كشف اللثام عما دار خلف الكواليس وما تم وراء الستار من اتفاقيات، ومعاهدات، ومحادثات، ومبايعات، ومقايضات سرية، وفتح الملفات المختومة، واستخراج الحقائق من بين أنياب الأسد. ولا ينطبق هذا المبدأ على الوقائع الدينية لأن التدين ظاهرة اجتماعية، واختبار دائم، وعنصر حيوي، ومصدر كل القوانين، وينبوع روحي لا غنى عنه. إذن التاريخ له معنى وهدف خاص.
وماذا نقصد إذن من أن التاريخ يعيد نفسه؟ كيف؟ ومن يعيده؟ السبب يكمن في أن مشاكل الإنسان هي هي في كل عصر، وطبيعة الإنسان لم تتغير. إنه الإنسان الذي يسعى لسد حاجاته ولو على حساب الآخرين. إنه الإنسان الذي ما زال يغضب، ويحب، ويكره، ويذمّ، ويندم، ويضحي، وينتقم، ويمرض، ويتأوه، ويواسي، ويشعر، ويتعلم ولا يكتفي، ويكنز ولا يشبع، ويموت وينساه الجميع حتى أهله وصحبه أو على الأقل يتناسونه. وفي كل عصر ما زلنا نرى بعض الناس سادة، والبعض عبيد، وغيرهم يشبهون إلى حد بعيد "أبا الهول"؛ لهم رأس الإنسان رمز الحكمة وجسم الأسد رمز القوة. وما فائدة أولئك الذين لهم رأس الحكمة على جسم وحشي مدمر؟ هؤلاء هم العظماء الذين يعيدون التاريخ أو يسعون لتحقيق أهدافهم. ويظل العامل الأخلاقي إلهاما لتكيف الشؤون البشرية أما الظلم والكذب والتضليل والافتراء والمداهنة فقد تعيش يوما ولكنها تقضي على صاحبها دهرا. ولا بد من التضحية للوصول إلى الحق وتأييده.
وبالرغم من هذا كله فإنني أؤمن بأن هناك يدا تحرك التاريخ ضمن خطة عليا مرسومة لتأمين التدخل الإلهي وتطبيق مبدأ العناية الإلهية. فإننا نجهل أحيانا سبب البلاء أو فهم معضلة الشر أو تفسير تغير النواميس الطبيعية المفاجئ أو استمرار التطور في عالم ناقص أو القدرة على التجديد الذاتي رغم عوامل الانحلال المستمرة. ألا يبعث هذا في الناس شعور التعاطف والتسامح. إن الخبرة ومقدار الاستفادة منها يحدد مستوى النضج.
علمنا التاريخ مثلا كره العدوان بكل صوره، فقد يكون العدوان احتلالا أو اغتصابا أو استعبادا واستغلالا أو تنصتاً وتجسساً أو ملاحقة وتلصصاً أو سلباً وقرصنة. ولكن التاريخ المعاصر، عالم الصواريخ والذرة والأقمار الصناعية، ألغى كل هذه المفاهيم لأن العالم أصبح صغيرا ولا مجال فيه لهذه الأعمال الخسيسة. إن العالم بحاجة إلى تقييم كل شيء من جديد نحو التعايش السلمي واستقبال وفود من دولة أو مهاجرين على أرض أخرى أي مشاركة الغير في كل الخير. إننا بحاجة إلى سياسة العمران لتشغيل الأيدي العاطلة وامتداد المشاريع السكنية واستغلال الطاقة. وبدلا من تسميتها سياسة الاستيطان لنسميها سياسة الإعمار. أن حل المشاكل العالمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي في البناء والتقدم. انتشارك في العمل والسكن والكسب والتفاهم والحب والحرية والأرض والوطن. تقدم قديما عبد أحد الأثرياء وطلب ثروة سيده أمام القضاء لأن سيده كتب له كل ثروته. وجاء الابن وسأل: هل أعطاه أبي صك الحرية. أجابوه بالنفي. فقال العبد: اذن العبد وماله ملك لي. إن العقيدة الدينية هي قصة أعمال الله في التاريخ، فأنت ملك لله. لذلك قال المسيح: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك هذه هي الوصية الأولى والعظمى، والثانية مثلها تحب قريبك مثل نفسك، بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء.
وعلمنا التاريخ عدم المساس بحقوق الدول الأخرى، وعلمتنا الأيام الحاضرة عدم انتهاك مصالح الرعايا داخل أي دولة لأن ما يحدث داخل الدول قد يؤثر على دول الجوار. وبناء عليه تحالفت الدول على نشر الوعي ونفل وجهات النظر وإقرار بعض المواثيق لحل القضايا الساخنة. وانعقدت مؤتمرات الحوارات الدينية المحلية والدولية لتغيير اتجاه الحياة من حب الذات إلى إيثار الآخرين وعدم الانعزال عن الناس بل الأخذ بالمشاركة والتفكير بالله بدلا من الشك في قيمة الأفكار القديمة والتقاليد الاجتماعية. وبهذا ينتهي صراع الإنسان ضد نفسه أو ضد غيره. وهنا فقط يستطيع المرء أن يجيب عن أسئلة باتت تتحدى تفكيره: ما هو الإنسان؟ وما معنى حياته؟ وأين مصيره؟ وكيف يدرك شخصيته؟ يقول علماء التكنولوجيا المتقدمة أن كل شيء في الأرض مسجل في الهواء بقلم الأشعة الصوتية وكأنها شريط سينمائي، كما يقول أيوب: لأن عينيه (عيني الله) على طرق الإنسان وهو يرى كل خطواته. قال حكيم الزمان: لكل شيء وقت، ولكل أمر تحت السماوات وقت. وصنع (الله) الكل حسناً في وقته وأيضاً جعل الأبدية في قلبهم ومن دونها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية. والله يطلب ما قد مضى. ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني. إذاً لست بعد عبداً بل ابنا. هذه هي أطروحة وخلاصة التاريخ.