Voice of Preaching the Gospel

vopg

كانون الثاني January 2010

على سفح جبل حرمون الذي تتدفّق منه مصادر مياه نهر الأردن الرئيسية كانت مدينة "قيصرية فيلبس" التي اشتهرت بمعبد الإله الروماني "پان" تشرئبّ برأسها بتشامخ وكبرياء. ولم يمضِ زمن قليل حتى تكاثر فيها تشييد المباني الضخمة،

وميادين المصارعة طيلة حكم العائلة الهيرودسية.
لجأ يسوع وتلاميذه إلى هذه المدينة في منجى من تدخلات أتباع هيرودس والفريسيين والصدوقيين الذي واظبوا على التعرّض له في محاولة للإيقاع به والقضاء عليه. ولكن يبدو أن المسيح قد استهدف من هذه الخلوة أن يلقي على تلاميذه دروساً بليغة بالإيمان، ولا سيما بعد أن شاهدوا معجزتَيه في إطعام الخمسة آلاف، ثم الأربعة آلاف؛ غير أن غشاوة من عدم الإدراك كانت تكفّن عيونهم وقلوبهم وعقولهم لأن القلق قد اعتراهم عندما دخلوا عبر البحيرة واكتشفوا أنهم لم يتزوّدوا بالطعام؛ وقد أنّبهم الرب يسوع على قلّة إيمانهم وذكّرهم بمعجزاته السالفة.
ولكن كان الغرض من اللجوء إلى قيصرية فيلبس والخلوة بهم هو أن يضعهم على محك الامتحان، فطرح عليهم سؤالين تاريخيين هما في رأيي في صلب حقيقة المسيح وفي جوهر شخصيته. حتى تلك اللحظة لم يكن المسيح قد  جابه تلاميذه بمثل هذين السؤالين إما لأنه لم يكن قد مضى عليهم وقت كافٍ ليكوّنوا فكرة صائبة عن شخصيته، أو لأن مداركهم كانت عاجزة عن استيعاب ذاتية هذه الشخصية اللامتناهية.
كان السؤال الأول: ماذا يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟ نلاحظ أن هذا السؤال يشتمل على واقعين كان لا بدّ من التحرّي عنهما. فالمسيح تساءل قائلاً: ماذا يقول الناس إني أنا..؟ هل كان المسيح لا يعلم ماذا كانت ردّات الفعل العامة بين أفراد الشعب؟ أم كان جاهلاً بتصوّراتهم وأشواق قلوبهم، وما كانوا يسعون إليه؟ لست أشك لحظة واحدة أن المسيح كان مطّلعاً على الرأي العام، وما كانوا يتوقون إليه؟ كانوا، على وجه الإجمال ينتظرون المسيّا الذي يحرّرهم من النير الروماني، ويقودهم في معارك طاحنة تسفر عن انتصارات باهرة يصبحون فيها أسياد أنفسهم وحكام الدول المقهورة. وعلى ضوء هذه المعرفة استخدم المسيح عبارة "إني أنا ابن الإنسان".
قد يقول قائل إن كان المسيح مطّلعاً على تصوّرات قلوب الشعب فلماذا سأل تلاميذه عن رأي الشعب فيه؟
الواقع أن هذا السؤال مرتبط بالسؤال الثاني. ولكن قبل أن نخوض في تأمّل السؤال الثاني، وإجابة التلاميذ عنه، يجدر بنا أن نمعن النظر في تصريحات التلاميذ.
إن عبارة "أني أنا ابن الإنسان" أوحت إلى التلاميذ كما أوحت إلى جمهور الشعب أن يسوع لا يختلف عن بقيّة الأنبياء – هذا إذا صحّ أنه نبيّ فقط. لهذا كانت الإجابة أن بعض القوم يعتقدون أنه يوحنا المعمدان، والبعض الآخر إيليّا، أو إرميا أو نبي من الأنبياء. لا ريب أن نظرة الجمهور لابن الإنسان كانت نظرة محدودة جداً لأن مداركهم لم تعِ أن المسيح كان أكثر من نبي، بل أن التلاميذ أنفسهم لم يكونوا في موقفٍ أفضل من مواقف الناس.
صحيح أن الأسماء الثلاثة كانت تشترك بأكثر من خاصة واحدة على الأقلّ، فكل واحد منهم كان يتمتّع بالجرأة، والغيرة على قداسة الله، والإحساس بالمسؤولية؛ فيوحنا المعمدان جابه هيرودس بجرأة كلّفته حياته، وإيليا الذي تحدّى أنبياء البعل وقضى على أربعمئة منهم لم يأبه لغضب إيزابل وأخآب، وإرميا وقف في وجه السلطات والأنبياء الكذبة والتيّار الوطني الذي طغى على الأمة حينذاك مما أفضى إلى اضطهاده ومقتله فيما بعد.
كان هؤلاء الأنبياء أبطال إيمانٍ يحظون بإعجابنا، ولكن الجماهير عمدوا إلى تشبيه المسيح بشخصيات من الماضي بدلاً من الاعتراف به كشخصٍ فريد يتميّز عن كل هؤلاء الأنبياء. وثانياً، ما أشاروا إليه من مماثلة كان يعبّر عن نصف الحقيقة؛ وفي هذا خطر شديد على الحقيقة. حقاً كان المسيح ابن الإنسان، ولكنه كان ابن الله أيضاً. ومع أن يسوع كان يملك خصائص هؤلاء جميعاً، ولكنه كان يتفوّق عليهم في كل شيء.
كان ليوحنا المعمدان والمسيح دور حيوي في تنفيذ خطة الله للخلاص، ولكن هناك فارق كبير في سياق هذه الخطة بين المسيح ويوحنا: شرع يوحنا يُعدّ الناس ليتقبّلوا سلطة الله في قلوبهم، ولكنه لم يجعلهم قادرين على تسلّمها لأنه هو نفسه كان يقف على حدود مملكة الله؛ بينما يسوع كان هو الباب الوحيد والطريق الوحيد لدخول الناس منه إليها. وفي هذا اختلاف شاسع بين الاثنين.
كان إيليا والمسيح رجلي صلاة، واجترح كل منهما معجزات شفاء، وانتصرا في المعارك ضدّ الأديان المزيّفة الأخرى. ولكن معجزات إيليا كانت بقوة الله، وانتصاراته اقتضت سفك دماء الآخرين. بينما صنع يسوع المسيح معجزاته بقوته الشخصية وانتصر بسفك دمه؛ كذلك لم يكن إيليّا ثابتاً دائماً في مواقفه إذ نراه، بعد مقتل أنبياء البعل، وتهديد إيزابل له يهرب إلى مكان بعيد خوفاً على حياته. أما يسوع فقد جاء إلى هذا العالم طوعاً لينجز خطة الخلاص، وثبت في جميع مواقفه.
كان إرميا أقرب إلى المسيح من جميع الأنبياء التاريخيين، إذ تحمّل عذاباً لم يكن يستوجبه، وثبت في مواقفه في إعلان القضاء الإلهي في تحدٍّ صارخ لكل التيارات التي كانت تعارضه، ولكنه مع نبل أخلاقه وإخلاصه، واستعداده للتضحية ظلّ نبياً وليس مخلّصاً. نعم، لقد تنبّأ بالعهد الجديد الذي تُغفر به خطايا العالم، وبالتالي يستحوزون مباشرة على معرفة الله. ولكن لا هو، ولا غيره من الأنبياء استطاعوا أن يحققوا هذه المعرفة ولا ذاك الخلاص.
وبعد أن أجاب التلاميذ عن سؤال المسيح الأول فاجأهم بقوله:
وأنتم من تقولون إني أنا؟
سؤال محرج للتلاميذ! لقد وضعهم المسيح في بوتقة الاختبار. لقد أخبرتموني من يقول الناس عني أنا ابن الإنسان، ولكن أنتم يا تلاميذي الذين عايشتموني، ورأيتم عجائبي، وسمعتم تعاليمي، واختبرتم حياتي، من هو أنا في رأيكم؟ لم يذكر هنا المسيح عبارة "ابن الإنسان" لأنه أراد أن يرتفع بهم إلى مستوى أسمى من مستوى بقية الأنبياء التاريخيين المعروفين في التوراة. أعتقد أن هذا السؤال كان أخطر سؤالٍ جابههم به المسيح لأن على جوابهم تتوقّف علاقتهم به وتكشف عن مدى وعيهم الروحي لحقيقة "ابن الله".
والواقع أن هذا السؤال لا يقتصر على التلاميذ بل هو موجّه لكل إنسان عبر التاريخ البشري.
ما هي نظرتك إلى المسيح؟
هل هو مجرّد نبي، أم معلّم صالح، أم فيلسوف، أم أكثر من ذلك؟
إن كل إنسان مطالَب أن يجيب عن هذا السؤال لأن في الإجابة عنه والعمل به يتوقّف عليه مصير الإنسان الأبدي. الإجابة تجسّد طبيعة العلاقة التي تشكّل مفهومك لشخص المسيح.
وبإرشاد إلهي هتف بطرس الرسول قائلاً: "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ".
لم يكن جواب بطرس ذاتياً ولا انفعالياً، بل كان من وحي إلهي لأن المسيح قال له مباشرة: "طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السموات". كان تصريح بطرس ذروة الإعلان الإلهي، وبذلك تبيّن للتلاميذ أن المسيح لم يكن كبقية الأنبياء الآخرين، بل كان يمتاز عنهم بكونه ابن الله الحيّ. من المؤسف حقاً أن طائفة من الناس لا ترى في المسيح سوى نبي عرضة لدينونة الله وأنه خاضع لمقاييس الفكر البشري، وأنه لا يتفوّق على بقيّة الناس العاديين إلا بالنبوّة، وأنه صاحب رسالة. وهذا يخالف الحقيقة ويشوّهها. ولكن شهادة بطرس هذه هي صفعة في وجه المنكرين الرافضين.
ولكن، عن ماذا يسفر هذا الاعتراف الصريح بل الشهادة الحيّة؟
أولاً، عن الفوز أو السقوط في الامتحان.
ثانياً، عن تأكيد المواقف في علاقة الإنسان مع الله من خلال المسيح.
ثالثاً، الإعراب عن الولاء الكامل أو عدمه ومسؤولية المرء باتخاذ قراره.
رابعاً، الاعتراف الصريح بألوهية المسيح وصلبه وقيامته والكرازة به.
أخي القارئ، أنت تقف أمام هذا السؤال التاريخي كما وقف التلاميذ عندما طرحه المسيح عليهم، فما هو جوابك؟

المجموعة: 201001

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

208 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10555108