Voice of Preaching the Gospel

vopg

كانون الثاني January 2010

شهادة الأخ الحبيب يوحنا الأسير، التي كتبها قبل رحيله إلى الأمجاد السماوية بقليل. إنه من العابرين من الظلمة إلى  نور المسيح العجيب، ورئيس تحرير مجلة ”سفراء في سلاسل“ التي كان يصدرها في السويد من سجنه. وقد ذكرنا في

مجلة العدد الماضي أنه انتقل ليكون مع الرب في إربيل بالعراق بتاريخ 2009/10/21.
*************************
حُكم عليّ بالسجن المؤبد فأظلمت الدُنيا أمامي... دخلت السجن وأنا أشعر بذنب كبير ووخز أليم، شعرت خلالها أنني قاتل وأستحق الموت! عشت بعدها أياماً وشهوراً مليئة بالأرق والألم والندم على ما فعلت، لقد صارت جدران سجني ملحمة صراع نفسي.
التقى بي، وكان لقاؤه معي في ليلة مظلمة في زنزانة خُصِّصت لخاطئ قاتل أثيم مثلي. فأنار بحبه ظلام سجني، مع أنني سمعتُ عنه الكثير من قبل واشتقتُ إلى رؤيته. لكن غرور الخطية وإغراء الشيطان تسببا في حرماني منه زمناً طويلاً. أما هو فقد سعى إليَّ بطرقه العجيبة وتدابيره الصالحة، وأخذ يبحث عني كما يبحث الراعي الصالح عن خروفه الضال حتى يجده. ولستُ أذكر أنه عاتبني وأنّبني بقدر ما أحبني وجذبني بقوة حبه... لست أذكر أنه أخذ مني شيئاً، لكنه أعطاني الكثير... أعطاني صفحاً وغفراناً، يقيناً وإيماناً، ثقة ورجاء، فرحاً وسلاماً، قوة وسلطاناً...
كيف استنارت عينيّ وأبصرت نوره البهي ومجده السني!؟
كيف أدركت أنني قد صرت ابناً له!؟
كيف تغيّر قلبي، وتجدّد ذهني، وتبدّلت رغباتي!؟ لست أدري... فلو حدثت هذه المعجزة مع إنسان آخر لشككت في أمرها. إلا أنها حدثت معي فلا أقدر أن أنكرها أو أشك في صحتها.
مضى على تلك المقابلة ما يقارب أحد عشر عاماً، كأنها حدثت بالأمس. فقد أنستني صحبته طول السنين، وظلام جدران سجني الأليم، فلم أشعر بثقلها ووطأتها، وكأنني لم أجاهد أو أتعب أو أكافح؛ فهو الذي جاهد وتألم وكافح عوضاً عني.
كنت أنظر باستمرار إلى نفسي وأتساءل كيف لا أتنبّه لما يدور حولي؟ كيف لا أهتم بماض أو حاضر أو مستقبل؟ كيف أعيش في عالم مضطرب وفي ظروف صعبة وكأنني لا أبالي بشيء أو أحسّ به!؟
دعوني أختصر لكم رحلة الإيمان التي بدأتها ولا زالت مستمرة، وستبقى إلى آخر لحظة في حياتي على الأرض؛ إلى أن أصل إلى موطني السماوي.
تركت بلدي عام 1980 في رحلة أيقنت فيما بعد أنها بداية رحلة إيماني العجيبة.
هاجرتُ بطريقة غير شرعية وبظروف خارجة عن إرادتي إلى إيران في بداية الحرب العراقية الإيرانية وبقيت هناك عدة شهور، أكملت بعدها السفر إلى تركيا. وفي أحد الأيام، جاء البوليس إلى مكان إقامتي ليقتادني إلى المخفر بتهمة دخول البلد بدون جواز سفر. بعد انتهاء التحقيق مع الأمن التركي أبعدوني إلى سوريا. وهناك نشب خلاف بيني وبين أحد الأشخاص، ترتب عليه إبعادي من سوريا والذهاب إلى لبنان، حيث بقيت هناك من عام 1981 إلى عام 1990، وأخيراً هاجرت إلى السويد.
في بداية عام 1993 قررتُ أن أصبح رجل أعمال، فقمت باستيراد الثريات والأثاث وكانت سفرياتي كثيرة. ومنذ بداية دخولي إلى السويد تعرّفت على إحدى النساء العربيات، وكانت مطلّقة، وكان ثمر هذه العلاقة أنه وُلد لي طفل منها، وكان هذا السر لا يعرف به أي إنسان. مرت السنون وازداد عملي، وازدادت معصيتي وأخطائي في كافة المجالات، لأن المال والشهوة هما رأس حربة في الحياة الحاضرة خصوصاً أننا في بلد تبدّلت فيه أخلاق من كانت لهم أخلاق.
وشاءت الظروف أنني اختلفت مع أحد الأشخاص حول أمور مالية أردتُ تصفيتها معه بحضور بعض الأشخاص، وكان لي معه قصة طويلة تخصّ العمل، ففي تلك الليلة بدأ الظلام يطبق على حياتي بشكل قاتم لا أرى فيه أي شيء.
جلسنا في بيتي لنناقش المشكلة، وطبعاً كنت قد جهزت طعاماً وشراباً ولزوم السهرة. وكنا نجلس سوياً أمام المائدة التي كانت عليها سكيناً لقطع اللحم. لم أتمالك أعصابي عندما أمسكت السكينة بكل قوتي وضربته في صدره، لكنني لم أكن أتوقع أنه سليفظ أنفاسه الأخيرة في الحال. وحدث ما حدث... فلا أستطيع الاستمرار في شرح ما خالجني من شعور آنئذٍ... كان ذلك الفعل الشنيع خارجاً عن إرادتي!
حُكم عليّ بالسجن المؤبد، فأظلمت الدُنيا أمامي، ودخلتُ السجن وأنا أشعر بذنب كبير ووخز أليم وأنني قاتل واستحق الموت.
عشتُ بعدها أياماً وشهوراً مليئة بالأرق والألم والندم على ما فعلت. وشعرتُ بذنب كبير لأني انتزعتُ روحاً ليس لي الحق في انتزاعها... صارت جدران سجني ملحمة صراع نفسي، فتركني الجميع ولم يكترث بي إنسان، حتى أهلي الذين اعتبروا أنني جلبتُ عليهم عاراً وخزياً.
بكيت كثيراً.. لم أستطع أن أنام، وكانت الكوابيس تهاجمني عندما أغمض عيني، فتعاطيت الأدوية المهدئة التي كان يوصفها لي طبيب السجن، لأني كنت حينها أشعر بذنب كبير يحيطني من كل جانب، وما أصعبه إحساس! وما أفظعه من ألم وعذاب الضمير!
مرت حوالي سنة ونصف، وفي صباح أحد أيام الأسبوع جاء لزيارتي قس السجن الذي كان يزورني بين الحين والآخر للاطمئنان على وضعي النفسي. وأثناء زيارته حمل لي معه بعض الصحف والمجلات باللغة العربية... وكانت هناك مجلة اسمها "كتابي" وبها إعلان عن وجود مدرسة تُدرّس الكتاب المقدس.
فسألت نفسي: لماذا لا أقضي وقت فراغي بالدراسة والمراسلة؟ فقد يشغلني هذا الشيء عن التفكير بمشكلتي. قمت بمراسلة هذه المدرسة، ودرست الكتاب المقدس مع الأخ ”مراد غريب“ الذي أعطاني الكتاب المقدس كأعظم هدية وصلتني على الاطلاق.
عندما درست الإنجيل، درسته دراسة سطحية بادئ الأمر، إذ كانت الغاية هي قتل الفراغ لأشغل وقتي في الكتابة والمراسلة.
بعد أن انتهيت من الدراسة انقطعت عنها لعدة شهور. وفي بداية عام 1997 وأثناء ترتيبي لأغراضي للانتقال إلى قسم آخر من السجن، وجدتُ أمامي الإنجيل مرة ثانية الذي كنت قد تركته بين أغراضي. فأخذته وفتحته ثم وضعته بجانب رأسي بدون أي قصد أو تفكير. وفي المساء بعد جهد الانتقال وتنظيف غرفتي، بقيت مسترخياً في سريري واضعاً يديّ تحت رأسي. وكان بجانب رأسي كتاب الحياة - الكتاب المقدس، فمددتُ يدي وفتحته بدون أن أحدّد الصفحة، فوقعت عيني على هذه الآية: "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية". وبعدها أكملت الآية التي شدتني أكثر لمعرفة المسيح: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3).
ثم أكملت القراءة بعد هذه الآيات بآيات أخرى جعلتني أفكّر جدياً بالبحث والتنقيب عن الحق والحقيقة وهي: "لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم" (يوحنا 17:3).
ماذا أقول؟ وماذا أفعل أمام هذه الكلمات التي أعجز عن وصفها الآن، لأنها نبع المحبة الأبوية التي وضعها الله أمامنا لنؤمن به؟!
بعد تأمل كثير في هذه الآيات وتعريفها وشرحها عجزت عن إدراكها. فعاودت قراءتها مرة أخرى ولم أفلح أيضاً في معرفة معانيها، ثم نمت بعدها.
وفي الليلة الثانية، بدأت أقرأ إنجيل يوحنا بشغف كبير ورغبة شديدة لم أشعر بها من قبل. وعندما وصلت إلى 24:5 "الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة".
تحيّرتُ جداً بعدها، فعاودت الكتابة إلى الأخ المسؤول موجّهاً له عدة أسئلة، فجاوبني عليها في عدة رسائل لا زلت احتفظ بها، وشجعني على الدراسة وقراءة المقارنات بين الأديان وزوّدني بما احتاجه من كتب ودراسات ومراجع.
بدأت أتعمق في الدراسة وأزداد فهماً للإنجيل، وكنت حينها لا زلت أقرأ في العهد الجديد فقط. لكنني لم أكن أستطيع بعد أن أزن الأمور أو أعطي رأياً أو قراراً، فكنت بين الحين والآخر أتناقش مع الأخ المسؤول هاتفياً أو من خلال الرسائل البريدية. والغريب في الأمر هو أنني بدأت أفقد الشعور بثقل السجن، وبمعنى أصح، بدأت أتناسى هذا السجن من خلال انشغالي بالقراءة والتفكير العميق.
جذبتني أقوال وكلمات الإنجيل، فأعدت قراءة إنجيل يوحنا مرة ثانية. وأخذتني القراءة في رحلة فكرية فريدة أحسست بأن شيئاً غريباً يحاول دائماً أن يدقّ باب أفكاري ويحفّزني على اتخاذ قرار معين لا أعرف ما المقصود به؟ وما هو هذا القرار الذي يجب أن أتخذه؟
والأمر الذي أدركته من خلال قراءتي للإنجيل هو قناعتي الفكرية بكل كلمة مكتوبة فيه، ولكن هناك أمامي حاجز واحد هو صلتي بخلفيتي الدينية وقناعتي السطحية بها.
كنت محتاراً، فأنا أقف أمام خيارين: هل أؤمن بالإنجيل بعد هذه الدراسة والبحث؟ والخيار الثاني هو قلقي بما أحسه تجاه الكتاب الذي نشأت عليه. فأنا بالوراثة من خلفية أخرى وليس لي اختيار شخصي فيها.
تقاذفني إحساس بالضياع، وكنت كلما أستصعب الأمور وأقف محتاراً، أذهب إلى إنجيل يوحنا محاولاً أن أتعمّق فيه وأتأمل بكل كلمة منه.
أحسست بشيء بدأ يشغل فكري لا أستطيع أن أحدده أو أستوعبه... ووقفت حائراً! شعرت بالجوع والعطش الفكري لأني قررت أن أعرف الحقيقة كاملة!
وفي إحدى الليالي، إذ كنتُ مستلقياً على سريري أتأمل بما يجول في خاطري، شعرت بفرحٍ وسعادة لم أشعر بهما منذ أن بدأ طريق بحثي عن الحقيقة، وأصبحت أيام سجني، وشهوره، وسنيه تمر بسرعة.
في تلك الليلة عينها لم أتعشّ أو أشرب، بل ذهبت إلى فراشي وأمسكت بالإنجيل لأعاود قراءته، وما أن وصلت إلى الكلمات المدونة في يوحنا 37:7 "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماءٍ حي"، حتى وقفت حائراً! ثم تساءلت: لمن كُتبت هذه الكلمات؟ ولماذا كُتبت؟
عندما انتهيت من مطالعة هذه الآيات أحسست بالحزن تجاه ذلك الإنسان الذي غسل أرجل تلاميذه... الذي ترك السماء، وتنازل لكي ما يأتي إلى أرضنا... الذي أحب الخطاة حباً لا مثيل له... الذي ضحى بنفسه وبحياته من أجل الأثمة، واللصوص، والقتلة، والزناة... الذي لم يفعل خطية ولم يكن في فمه غش.
أغمضت جفني لأنام وأنا في حيرة وأحسست بأنه يجب عليّ أن اتخذ القرار لكنني ترددتُ، وفي نفس الوقت كان ضميري يقول لي هذه هي الحقيقة! حاولت الهروب منها فلم استطع. ثم أغمضت جفني لأنام وقلت قبل أن أنام سأغير قراءتي من إنجيل يوحنا لأنه بدأ يشغل فكري ويقلقني كثيراً لأنني لم أرَ ولم أقرأ في أي كتاب عن مثل هذه المحبة الموجودة فيه.
بعد صراع فكري، نمت مستريحاً، وامتلأ كياني بفرح وسلام لم يسبق أنني شعرت به من قبل. وفي تلك الليلة ظهر لي في المنام شخص ناصع الثياب، أما ملامحه فلم أستطع أن أميزها لأنها كانت نور! قال لي بالحرف الواحد: "لماذا أنت متحيّر؟! أنا هو الذي تقرأ في إنجيله كل ليلة. الطريق أمامك واضح.. آمن بما يؤمن به أخوك مراد".. ثم كرر هذه الكلمات عدة مرات واختفى.
ثم أفقت من حلم لم أحلم به من قبل. وكانت الساعة تقريباً تقارب الثالثة صباحاً، فأمسكت الإنجيل وفتحت على نفس الصفحة التي قرأتها في 37:7 لأني وضعت بين الصفحات ورقة صفراء، فأعدت القراءة: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب"، ثم أغلقت الإنجيل وكانت أفكاري مشدودة لهذه الكلمات العظيمة. في تلك الليلة، شعرتُ بأنه عليّ أن أتخذ قراراً حاسماً أو أبتعد عما يشغلني ويشتت أفكاري.
لكنني في هذه الليلة رفعتُ نظري إلى السماء وكانت هذه أول مرة أنطق بكلمات تخرج من أعماق قلبي وقلت: يا رب أريد أن ترشدني، يا رب أعفِ عني لأني إنسان قاتل ومجرم.. أعنّي وساعدني يا رب!
هذا ما طلبته من الله في لحظات شعرت بضعفي وعجزي.
وحين غلبني النوم ثانية عاودني الحلم مرة أخرى وسمعت الصوت ذاته قائلاً لي: "آمن بما يؤمن به أخوك مراد"!
عندما استيقظت في الصباح رفعت سماعة التلفون لأتكلم مع الأخ مراد غريب. طال حديثي معه هذه المرة، وأثناء حديثي أخبرته بأنني قبلت المسيح مخلصاً لحياتي بعد رحلة طويلة من الدراسة والتأمل.
في نفس اليوم التقيت قس السجن وطلبت منه أن يعمدني فتعمدت. وبعد هذا الصراع المرير، وبعد هذا الدرس الكبير، والذل الرهيب، والذنب العظيم، امتدت لي رحمة الله فلم توقفها جدران السجن، أو تمنعها كوني مجرم قاتل، لكنها وصلت لي لتنتشل إنساناً أثيماً مثلي، فلم أكن أتصور بعد أن إله السماء ما زال يحسبني بين أعداد الأحياء، ولم أكن أحلم بأنه سيأتي عليّ مثل هذا اليوم الجديد... بعد أن صارت أحلامي مجرد كوابيس، وبعد أن صارت أيامي لحظات تأنيب وأنين، ولكن سقطت كل توقعاتي، وتلاشت جميع أوهامي عندما أضاء الرب ليلي الدامس، ورفعني من المذلة، ورضي أن يرتبط بي كأب، ويتبنى مجرماً نظيري... ما أعجبه من إله!! وما أروع حنانه!!!
من هنا كانت البداية التي لا تنتهي، سأظل أعلن حب الله للجميع. لا يوقفني إنسان، ولا يمنعني شيطان لأخبر عن عمل النعمة وعن اختبار التغيير.
لقد أنقذني يسوع من حمأة الخطية، فيسوع ربي، وسيدي، وملكي، وإلهي، له كل المجد، آمين.
لم تتغير حياتي فحسب، بل تغير اسمي أيضاً وأصبح ”يوحنا الأسير“، وأنا الآن أخدم الرب من داخل أسوار السجن وأقوم بإصدار مجلة ”سفراء في سلاسل“، التي تصدر أربع مرات في السنة، إلى جانب خدمة المتابعة والمراسلة مع الكثيرين حول العالم ومن كل الخلفيات.

 

شهادة الأخ الحبيب يوحنا الأسير، التي كتبها قبل رحيله إلى الأمجاد السماوية بقليل. إنه من العابرين من الظلمة إلى  نور المسيح العجيب، ورئيس تحرير مجلةسفراء في سلاسل التي كان يصدرها في السويد من سجنه. وقد ذكرنا في مجلة العدد الماضي أنه انتقل ليكون مع الرب في إربيل بالعراق بتاريخ 2009/10/21.

*************************

حُكم عليّ بالسجن المؤبد فأظلمت الدُنيا أمامي... دخلت السجن وأنا أشعر بذنب كبير ووخز أليم، شعرت خلالها أنني قاتل وأستحق الموت! عشت بعدها أياماً وشهوراً مليئة بالأرق والألم والندم على ما فعلت، لقد صارت جدران سجني ملحمة صراع نفسي.

التقى بي، وكان لقاؤه معي في ليلة مظلمة في زنزانة خُصِّصت لخاطئ قاتل أثيم مثلي. فأنار بحبه ظلام سجني، مع أنني سمعتُ عنه الكثير من قبل واشتقتُ إلى رؤيته. لكن غرور الخطية وإغراء الشيطان تسببا في حرماني منه زمناً طويلاً. أما هو فقد سعى إليَّ بطرقه العجيبة وتدابيره الصالحة، وأخذ يبحث عني كما يبحث الراعي الصالح عن خروفه الضال حتى يجده. ولستُ أذكر أنه عاتبني وأنّبني بقدر ما أحبني وجذبني بقوة حبه... لست أذكر أنه أخذ مني شيئاً، لكنه أعطاني الكثير... أعطاني صفحاً وغفراناً، يقيناً وإيماناً، ثقة ورجاء، فرحاً وسلاماً، قوة وسلطاناً...

كيف استنارت عينيّ وأبصرت نوره البهي ومجده السني!؟

كيف أدركت أنني قد صرت ابناً له!؟

كيف تغيّر قلبي، وتجدّد ذهني، وتبدّلت رغباتي!؟ لست أدري... فلو حدثت هذه المعجزة مع إنسان آخر لشككت في أمرها. إلا أنها حدثت معي فلا أقدر أن أنكرها أو أشك في صحتها.

مضى على تلك المقابلة ما يقارب أحد عشر عاماً، كأنها حدثت بالأمس. فقد أنستني صحبته طول السنين، وظلام جدران سجني الأليم، فلم أشعر بثقلها ووطأتها، وكأنني لم أجاهد أو أتعب أو أكافح؛ فهو الذي جاهد وتألم وكافح عوضاً عني.

كنت أنظر باستمرار إلى نفسي وأتساءل كيف لا أتنبّه لما يدور حولي؟ كيف لا أهتم بماض أو حاضر أو مستقبل؟ كيف أعيش في عالم مضطرب وفي ظروف صعبة وكأنني لا أبالي بشيء أو أحسّ به!؟

دعوني أختصر لكم رحلة الإيمان التي بدأتها ولا زالت مستمرة، وستبقى إلى آخر لحظة في حياتي على الأرض؛ إلى أن أصل إلى موطني السماوي.

تركت بلدي عام 1980 في رحلة أيقنت فيما بعد أنها بداية رحلة إيماني العجيبة.

هاجرتُ بطريقة غير شرعية وبظروف خارجة عن إرادتي إلى إيران في بداية الحرب العراقية الإيرانية وبقيت هناك عدة شهور، أكملت بعدها السفر إلى تركيا. وفي أحد الأيام، جاء البوليس إلى مكان إقامتي ليقتادني إلى المخفر بتهمة دخول البلد بدون جواز سفر. بعد انتهاء التحقيق مع الأمن التركي أبعدوني إلى سوريا. وهناك نشب خلاف بيني وبين أحد الأشخاص، ترتب عليه إبعادي من سوريا والذهاب إلى لبنان، حيث بقيت هناك من عام 1981 إلى عام 1990، وأخيراً هاجرت إلى السويد.

في بداية عام 1993 قررتُ أن أصبح رجل أعمال، فقمت باستيراد الثريات والأثاث وكانت سفرياتي كثيرة. ومنذ بداية دخولي إلى السويد تعرّفت على إحدى النساء العربيات، وكانت مطلّقة، وكان ثمر هذه العلاقة أنه وُلد لي طفل منها، وكان هذا السر لا يعرف به أي إنسان. مرت السنون وازداد عملي، وازدادت معصيتي وأخطائي في كافة المجالات، لأن المال والشهوة هما رأس حربة في الحياة الحاضرة خصوصاً أننا في بلد تبدّلت فيه أخلاق من كانت لهم أخلاق.

وشاءت الظروف أنني اختلفت مع أحد الأشخاص حول أمور مالية أردتُ تصفيتها معه بحضور بعض الأشخاص، وكان لي معه قصة طويلة تخصّ العمل، ففي تلك الليلة بدأ الظلام يطبق على حياتي بشكل قاتم لا أرى فيه أي شيء.

جلسنا في بيتي لنناقش المشكلة، وطبعاً كنت قد جهزت طعاماً وشراباً ولزوم السهرة. وكنا نجلس سوياً أمام المائدة التي كانت عليها سكيناً لقطع اللحم. لم أتمالك أعصابي عندما أمسكت السكينة بكل قوتي وضربته في صدره، لكنني لم أكن أتوقع أنه سليفظ أنفاسه الأخيرة في الحال. وحدث ما حدث... فلا أستطيع الاستمرار في شرح ما خالجني من شعور آنئذٍ... كان ذلك الفعل الشنيع خارجاً عن إرادتي!

حُكم عليّ بالسجن المؤبد، فأظلمت الدُنيا أمامي، ودخلتُ السجن وأنا أشعر بذنب كبير ووخز أليم وأنني قاتل واستحق الموت.

عشتُ بعدها أياماً وشهوراً مليئة بالأرق والألم والندم على ما فعلت. وشعرتُ بذنب كبير لأني انتزعتُ روحاً ليس لي الحق في انتزاعها... صارت جدران سجني ملحمة صراع نفسي، فتركني الجميع ولم يكترث بي إنسان، حتى أهلي الذين اعتبروا أنني جلبتُ عليهم عاراً وخزياً.

بكيت كثيراً.. لم أستطع أن أنام، وكانت الكوابيس تهاجمني عندما أغمض عيني، فتعاطيت الأدوية المهدئة التي كان يوصفها لي طبيب السجن، لأني كنت حينها أشعر بذنب كبير يحيطني من كل جانب، وما أصعبه إحساس! وما أفظعه من ألم وعذاب الضمير!

مرت حوالي سنة ونصف، وفي صباح أحد أيام الأسبوع جاء لزيارتي قس السجن الذي كان يزورني بين الحين والآخر للاطمئنان على وضعي النفسي. وأثناء زيارته حمل لي معه بعض الصحف والمجلات باللغة العربية... وكانت هناك مجلة اسمها "كتابي" وبها إعلان عن وجود مدرسة تُدرّس الكتاب المقدس.

فسألت نفسي: لماذا لا أقضي وقت فراغي بالدراسة والمراسلة؟ فقد يشغلني هذا الشيء عن التفكير بمشكلتي. قمت بمراسلة هذه المدرسة، ودرست الكتاب المقدس مع الأخمراد غريب الذي أعطاني الكتاب المقدس كأعظم هدية وصلتني على الاطلاق.

عندما درست الإنجيل، درسته دراسة سطحية بادئ الأمر، إذ كانت الغاية هي قتل الفراغ لأشغل وقتي في الكتابة والمراسلة.

بعد أن انتهيت من الدراسة انقطعت عنها لعدة شهور. وفي بداية عام 1997 وأثناء ترتيبي لأغراضي للانتقال إلى قسم آخر من السجن، وجدتُ أمامي الإنجيل مرة ثانية الذي كنت قد تركته بين أغراضي. فأخذته وفتحته ثم وضعته بجانب رأسي بدون أي قصد أو تفكير. وفي المساء بعد جهد الانتقال وتنظيف غرفتي، بقيت مسترخياً في سريري واضعاً يديّ تحت رأسي. وكان بجانب رأسي كتاب الحياة - الكتاب المقدس، فمددتُ يدي وفتحته بدون أن أحدّد الصفحة، فوقعت عيني على هذه الآية: "وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية". وبعدها أكملت الآية التي شدتني أكثر لمعرفة المسيح: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3).

ثم أكملت القراءة بعد هذه الآيات بآيات أخرى جعلتني أفكّر جدياً بالبحث والتنقيب عن الحق والحقيقة وهي: "لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم" (يوحنا 17:3).

ماذا أقول؟ وماذا أفعل أمام هذه الكلمات التي أعجز عن وصفها الآن، لأنها نبع المحبة الأبوية التي وضعها الله أمامنا لنؤمن به؟!

بعد تأمل كثير في هذه الآيات وتعريفها وشرحها عجزت عن إدراكها. فعاودت قراءتها مرة أخرى ولم أفلح أيضاً في معرفة معانيها، ثم نمت بعدها.

وفي الليلة الثانية، بدأت أقرأ إنجيل يوحنا بشغف كبير ورغبة شديدة لم أشعر بها من قبل. وعندما وصلت إلى 24:5 "الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة".

تحيّرتُ جداً بعدها، فعاودت الكتابة إلى الأخ المسؤول موجّهاً له عدة أسئلة، فجاوبني عليها في عدة رسائل لا زلت احتفظ بها، وشجعني على الدراسة وقراءة المقارنات بين الأديان وزوّدني بما احتاجه من كتب ودراسات ومراجع.

بدأت أتعمق في الدراسة وأزداد فهماً للإنجيل، وكنت حينها لا زلت أقرأ في العهد الجديد فقط. لكنني لم أكن أستطيع بعد أن أزن الأمور أو أعطي رأياً أو قراراً، فكنت بين الحين والآخر أتناقش مع الأخ المسؤول هاتفياً أو من خلال الرسائل البريدية. والغريب في الأمر هو أنني بدأت أفقد الشعور بثقل السجن، وبمعنى أصح، بدأت أتناسى هذا السجن من خلال انشغالي بالقراءة والتفكير العميق.

جذبتني أقوال وكلمات الإنجيل، فأعدت قراءة إنجيل يوحنا مرة ثانية. وأخذتني القراءة في رحلة فكرية فريدة أحسست بأن شيئاً غريباً يحاول دائماً أن يدقّ باب أفكاري ويحفّزني على اتخاذ قرار معين لا أعرف ما المقصود به؟ وما هو هذا القرار الذي يجب أن أتخذه؟

والأمر الذي أدركته من خلال قراءتي للإنجيل هو قناعتي الفكرية بكل كلمة مكتوبة فيه، ولكن هناك أمامي حاجز واحد هو صلتي بخلفيتي الدينية وقناعتي السطحية بها.

كنت محتاراً، فأنا أقف أمام خيارين: هل أؤمن بالإنجيل بعد هذه الدراسة والبحث؟ والخيار الثاني هو قلقي بما أحسه تجاه الكتاب الذي نشأت عليه. فأنا بالوراثة من خلفية أخرى وليس لي اختيار شخصي فيها.

تقاذفني إحساس بالضياع، وكنت كلما أستصعب الأمور وأقف محتاراً، أذهب إلى إنجيل يوحنا محاولاً أن أتعمّق فيه وأتأمل بكل كلمة منه.

أحسست بشيء بدأ يشغل فكري لا أستطيع أن أحدده أو أستوعبه... ووقفت حائراً! شعرت بالجوع والعطش الفكري لأني قررت أن أعرف الحقيقة كاملة!

وفي إحدى الليالي، إذ كنتُ مستلقياً على سريري أتأمل بما يجول في خاطري، شعرت بفرحٍ وسعادة لم أشعر بهما منذ أن بدأ طريق بحثي عن الحقيقة، وأصبحت أيام سجني، وشهوره، وسنيه تمر بسرعة.

في تلك الليلة عينها لم أتعشّ أو أشرب، بل ذهبت إلى فراشي وأمسكت بالإنجيل لأعاود قراءته، وما أن وصلت إلى الكلمات المدونة في يوحنا 37:7 "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماءٍ حي"، حتى وقفت حائراً! ثم تساءلت: لمن كُتبت هذه الكلمات؟ ولماذا كُتبت؟

عندما انتهيت من مطالعة هذه الآيات أحسست بالحزن تجاه ذلك الإنسان الذي غسل أرجل تلاميذه... الذي ترك السماء، وتنازل لكي ما يأتي إلى أرضنا... الذي أحب الخطاة حباً لا مثيل له... الذي ضحى بنفسه وبحياته من أجل الأثمة، واللصوص، والقتلة، والزناة... الذي لم يفعل خطية ولم يكن في فمه غش.

أغمضت جفني لأنام وأنا في حيرة وأحسست بأنه يجب عليّ أن اتخذ القرار لكنني ترددتُ، وفي نفس الوقت كان ضميري يقول لي هذه هي الحقيقة! حاولت الهروب منها فلم استطع. ثم أغمضت جفني لأنام وقلت قبل أن أنام سأغير قراءتي من إنجيل يوحنا لأنه بدأ يشغل فكري ويقلقني كثيراً لأنني لم أرَ ولم أقرأ في أي كتاب عن مثل هذه المحبة الموجودة فيه.

بعد صراع فكري، نمت مستريحاً، وامتلأ كياني بفرح وسلام لم يسبق أنني شعرت به من قبل. وفي تلك الليلة ظهر لي في المنام شخص ناصع الثياب، أما ملامحه فلم أستطع أن أميزها لأنها كانت نور! قال لي بالحرف الواحد: "لماذا أنت متحيّر؟! أنا هو الذي تقرأ في إنجيله كل ليلة. الطريق أمامك واضح.. آمن بما يؤمن به أخوك مراد".. ثم كرر هذه الكلمات عدة مرات واختفى.

ثم أفقت من حلم لم أحلم به من قبل. وكانت الساعة تقريباً تقارب الثالثة صباحاً، فأمسكت الإنجيل وفتحت على نفس الصفحة التي قرأتها في 37:7 لأني وضعت بين الصفحات ورقة صفراء، فأعدت القراءة: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب"، ثم أغلقت الإنجيل وكانت أفكاري مشدودة لهذه الكلمات العظيمة. في تلك الليلة، شعرتُ بأنه عليّ أن أتخذ قراراً حاسماً أو أبتعد عما يشغلني ويشتت أفكاري.

لكنني في هذه الليلة رفعتُ نظري إلى السماء وكانت هذه أول مرة أنطق بكلمات تخرج من أعماق قلبي وقلت: يا رب أريد أن ترشدني، يا رب أعفِ عني لأني إنسان قاتل ومجرم.. أعنّي وساعدني يا رب!

هذا ما طلبته من الله في لحظات شعرت بضعفي وعجزي.

وحين غلبني النوم ثانية عاودني الحلم مرة أخرى وسمعت الصوت ذاته قائلاً لي: "آمن بما يؤمن به أخوك مراد"!

عندما استيقظت في الصباح رفعت سماعة التلفون لأتكلم مع الأخ مراد غريب. طال حديثي معه هذه المرة، وأثناء حديثي أخبرته بأنني قبلت المسيح مخلصاً لحياتي بعد رحلة طويلة من الدراسة والتأمل.

في نفس اليوم التقيت قس السجن وطلبت منه أن يعمدني فتعمدت. وبعد هذا الصراع المرير، وبعد هذا الدرس الكبير، والذل الرهيب، والذنب العظيم، امتدت لي رحمة الله فلم توقفها جدران السجن، أو تمنعها كوني مجرم قاتل، لكنها وصلت لي لتنتشل إنساناً أثيماً مثلي، فلم أكن أتصور بعد أن إله السماء ما زال يحسبني بين أعداد الأحياء، ولم أكن أحلم بأنه سيأتي عليّ مثل هذا اليوم الجديد... بعد أن صارت أحلامي مجرد كوابيس، وبعد أن صارت أيامي لحظات تأنيب وأنين، ولكن سقطت كل توقعاتي، وتلاشت جميع أوهامي عندما أضاء الرب ليلي الدامس، ورفعني من المذلة، ورضي أن يرتبط بي كأب، ويتبنى مجرماً نظيري... ما أعجبه من إله!! وما أروع حنانه!!!

من هنا كانت البداية التي لا تنتهي، سأظل أعلن حب الله للجميع. لا يوقفني إنسان، ولا يمنعني شيطان لأخبر عن عمل النعمة وعن اختبار التغيير.

لقد أنقذني يسوع من حمأة الخطية، فيسوع ربي، وسيدي، وملكي، وإلهي، له كل المجد، آمين.

لم تتغير حياتي فحسب، بل تغير اسمي أيضاً وأصبحيوحنا الأسير، وأنا الآن أخدم الرب من داخل أسوار السجن وأقوم بإصدار مجلةسفراء في سلاسل، التي تصدر أربع مرات في السنة، إلى جانب خدمة المتابعة والمراسلة مع الكثيرين حول العالم ومن كل الخلفيات.

المجموعة: 201001

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

215 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10561124