أيار May 2010
ما أنْ هَممْتُ بفتحِ باب غرفتِنا الصغيرة في الفندق الذي طالَت إقامتُنا فيه، بسبَب الحرب الأهلية في لبنان آنذاك، حتى فوجئتُ بابن صاحبِ الفندق وهو ينظر إليَّ والرغبةُ باديةٌ على محياه للتعرُّف علينا، والحديث إلينا. فقلت له بصوتٍ خافت يشبهُ الهمس:
- مرحباً يا أخي، تفضَّل.
وهنا دفع البابَ بيده، ودخل وجلسَ على السرير إذ لم يكنْ هناك مكانٌ آخر في الغرفة. وراح يسألُنا من أين أتينا، وما الذي أتى بنا إلى "ميروبا" في جبل كسروان. فأخبرناه بأنَّنا هاربانِ من "الحَدَث" بسبب القصف الشديد. فقال:
- لكن ليس هناك عائلة حبيبي في الحدَث، إذ إن عائلات "الحَدث" معروفةٌ بأسمائها. ومعنى هذا أنكم أنتم من سكان "الحدَث" فقط. فمن أين أنتم أصْلاً؟ قلنا له:
- لقد سكنَّا في منطقة "الأشرفية" سابقاً.
عندها أعاد الكرَّة مرةً أخرى، فقلنا له:
- من الجنوب.
أما هو فلم يقتنع، بل عاد ليقول:
- لقد عرفنا من كلام السيدة أنها دمشقية، أما أنت يا شكري فمن أين هو أصلُ عائلتك في الجنوب؟
وهنا ظهر الشُّحوب على وجه زوجي ولم يعرف بماذا يجيب. فوَضْعُ الحرب القائمة لا يتحمَّل الرَّد، والنفوسُ المعبّأة لم يعدْ فيها فسحةٌ لتتَّسع أيَّ شخص يتحدَّر من أصلٍ آخر حتى ولو كان يحمل الجنسية اللبنانية. ولما استغربَ الرجل صْمتَ زوجي، قلتُ له أنا بصوتٍ منخفض:
- إنَّه من جنوب الجنوب.
وقَع جوابي على رأس الرجل الشاب كوقعِ الصاعقة. فنظَر إلى زوجي بتعجُّبٍ كبير وقال مشيراً ببنانِه:
- هل تعني أنَّك فلسطيني؟
- نعم.
جاء ردُّنا معاً. وبدأنا ساعتئذٍ نخبره أننَّا مسيحيون إنجيليون، ولا نمتُّ إلى أيةِ جهةٍ سياسية ولا إلى أيِّ حزبٍ بِِصِلة. فنحن معروفون بين جيراننا. وبعد أخْذٍ وردٍّ لمدة ساعة تقريباً، شربْنا فيها القهوة معاً، تركَ جارُنا المحامي غرفتَنا بعد أن طمأنَنا بأنَّه لن يشاركَ اكتشافَه هذا مع أيِّ شخصٍ في الفندق ولا حتى مع والده صاحبِ الفندق. وبالطبع وفى لنا بوعدِه، وعندما تحسَّنَتِ الحال، وهدأتِ المدافع بعضَ الشيء، زرناهُ مودِّعين، وأهديناهُ الإنجيلَ وشكرناه على حسن جواره.
نعم، ما هي أصولُكَ؟ ومن أين أنتَ؟ ومَن هم أجدادُك؟ ومن أين تنحدِرُ؟ وهل أنت قريبٌ أم غريبٌ؟ ومن أيةِ مدينة؟ وكلامُك يشهد عنك، وإلى ما هنالك من تصنيفاتٍ يصنِّف بها واحدُنا الآخر، في مجتمعٍ باتَ الآن، وخصوصاً هنا في أميركا، متَّسَعا لخليطٍ من البشر واسعٍ. وللأسف، نجد نحن المؤمنين أنفسنا، منجرفين في هذا التيار غيرِ المحّبب فنقولُ عن فلان: الأسود... الأبيض... الشرقي... الغربي... المسلم... اليهودي... والمسيحي... ولا زلت أذكر حتى الآن الرسائلَ الإلكترونية التي وردتني من إخوة لي في الإيمان، بعد أن انتُخب الرئيس أوباما إلى سُدَّة الرئاسة في أميركا، وكيف كانت تحمل نكاتٍ وكلامَ سخرية عن رئيس البلاد لأنه ذو لون يختلف عن الرؤساء السابقين. وفي ذلك الوقت بالذات، تذكَّرت أيضاً الكلمات الرزينة والحكيمة التي نطق بها أحدُِ الوعاظ اللبنانيين المشهورين ”القس الدكتور غسان خلف“ في مؤتمر كنيستنا مؤخراً، حين قال:
- لا يا أخي، لم يكن المسيح عنصريا، حتى حينما اتُّهم "أنت سامري وبك شيطان" لم يُجب بكلمة عن موضوع العِرْق أو النوع كيلا يؤذي مشاعرَ الآخَر، لأنه كانَ حساساً لمشاعر البشر.
وقال الواعظ أيضاً:
- لقد أحب الله العالم أجمع، من دون فرق، بين عبد وحر، بين مسلم ومسيحي ويهودي، بين أسود وأبيض وأحمر وأصفر، بين شرقي أو غربي. فالله الكليُّ القداسة ينخرط في عالم البشر المتنوع، في عالم الإنسان الخاطئ. وبالرغم من هذا قالوا عنه: إنَّه أكول وشريب خمر ومحب للعشارين والخطاة!
أجل يا قارئي، وننزلِقُ نحن أيضاً في هذا التصنيف عينه، حين نقول:
- أنا مؤمن أمّا ذاكَ فشرير خاطئ!
وننسى كلمة الله التي تقول: "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رومية 23:3). أو قد نسمع آخر يقول:
- هذا الاجتماع للخطاة!!
أفلسنا نحن المؤمنين، خطاةً أيضاً؟ لكنَّنا قد تغسَّلنا بل تبرَّرنا بدم يسوع المسيح وحده البار؟! أليس المبدأُ المسيحي هو أن نحبَّ الناس جميعاً ولا نسيءَ لمشاعرِ أحدٍ منهم؟!
امتطت سيدةٌ شقراء الطائرة وجلستْ في مقعدها، لكنَّها سرعانَ ما بدأت بالتأفُّف والتذمر. وحين اقتربت منها المضيفةُ بدأت تشتكي لها وتقول:
- هل لكِ أن تجدي لي مقعداً آخر لأنَّني لا أريد أن أجلس إلى جانبِ هذا الرجل الأسود. فمنظره لا يبدو مريحاً بالنسبة لي.
نظرَتْ إليها المضيفةُ بابتسام وقالت:
- إنَّ الطائرة مليئةٌ بالركاب، لكنَّني سأحاول أن أجدَ لكِ مقعداً في قسم الركاب في الدرجة الأولى.
انشرحتْ أساريرُ المرأة، وانتظرت متأمِّلةً أن تحظى بمقعدٍ آخر. أما بقيةُ الركَّاب الذين كانوا يستمعون إلى الحديث فلقد أُصيبوا بصدمةٍ قوية وشعروا بالاشمئزاز في آنٍ واحد، ليس من طلب المسافرة فحسب، بل أيضاً من جرَّاء أسلوبها الوقح والأناني. وبدا الراكبُ الأسود مضطرباً ِلما يسمعُ ويرى، لكنَّه لم يَفُهْ ببنتِ شفة واستطاع الحفاظَ على هدوئِه. وبعد فترةٍ من الزمن رجعتِ المضيفة وهي تحمل أخباراً سارة وقالت للمرأة:
- عفواً، الرحلةُ مليئة، لكنْ لحُسنِ الحظ فلقد وجدتُ مكاناً شاغراً في قسم الدرجة الأولى. لكن، كان عليَّ أن أستأذنَ القبطان أولاً، فوافق قائلاً: بالطبع، فنحن ينبغي ألاَّ نُجبرَ أحداً كائناً مَنْ كان بالجلوس إلى جانب شخصٍ آخر لا يشعر معه بالارتياح، وهكذا سمح لي بأن أُجري التغييرَ فوراً.
وهنا ظهرت علاماتُ النصرة والابتهاج على وجه الراكبة وهكذا بدأت بالتحرك من مقعدها، وسطَ دهشة الركاب واستغرابِهم. لكن، ما كان من المضيفة إلا أن اقتربتْ من الرجل الأسود وقالت له:
- أرجو منكَ يا سيدي أن تنتقل من مقعدكَ هذا، وتلتحق بمقعدٍ آخر أعددناه لكَ في الدرجة الأولى. وإنَّني بالنيابة عن الخطوط الجوية أعتذر لك لأنَّك تحملّت هذه الراكبة المنزعجة، التي تجلس إلى جانبك.
وهنا ضجَّتِ الطائرة بصوت التصفيق الحاد الصادرِ عن الركاب. كما حيَّا الركابُ طاقمَ الطائرة الذي عرف بالضبط كيف يتصرَّف ببراعة وامتياز مع هذه المشكلة. وفي تلك السنة حصل ذلك القبطان وتلك المضيفة على تقديرٍ كبير بسبب تصرُّفهما الحكيم. وبسبب ما حصل، قامت الشركة فيما بعد بإعادة تأهيل وتدريب العاملين معها على كيفية تعاملهم مع السادة المسافرين. وعلّقت شركة الخطوط الجوية في مكاتبها يافطة مكتوبٌ عليها:
ينسى الناس ما قيل عنهم، وينسون أيضاً ما ارتكبْتُه في حقهم، لكنهم لن ينسوا أبداً كيف جعلتهم يشعرون.
حصلتْ هذه الحادثةُ الحقيقية على متنِ طائرةٍ عابرة للمحيطات بتاريخ الرابع عشر من شهر أكتوبر من العام 1998. أمَّا كلماتُ الرب يسوع المسيح فلا زالت ترنُّ عبرَ العصور والأجيال مذكِّرة إيَّانا جميعاً، وبغضِّ النظر عن عِرْقِنا وأصلنا وفصلنا:
"فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ" (متى 7:12). عندها نقدر أن نعكسَ صورة المسيح الصحيحة لعالمنا المحتاج والمنقسم على ذاته أصلاً. فنمُدُّ أيدينا للصُّفر، والحُمْر، والبيضِ، والسُّود... للكبير والصغير، للعبد والحرّ، للغني والفقير، لا فرق، لماذا؟ لأنَّ الله يحبُّهم جميعاً ويريدنا نحن أيضاً أن ننخرِط في عالمِهم كما انخرطَ هو القدُّوس والمتعالي في عالمِ الإنسانِ الخاطئ والشرير.
أجل، هذا هو المبدأ المسيحي الصحيح الذي يجب علينا نحن المؤمنين اتِّباعه. أما في شأن الاقتران والتزاوج بين الأعراق المختلفة، فهذا بالطَّبع يعود إلى استحسان الفرد، وحريته الشخصية، وحقِّه في الاختيار. هذا الاختيار الذي ربما يُصيب أحياناً ويخطئ في أحيانٍ أخرى، بسبب ما يجلِبُه إلى البيت الزوجي من اختلافات وتحدّيات هي أكثرُ بكثير من التآنسِ والتجانُس.