حزيران June 2010
عندما يختبر الإنسان نعمة الله، ويحصل على الولادة الجديدة بالإيمان، تتغير حياته رأساً على عقب. ويستطيع بواسطة الروح القدس أن يسلك في طريق جديد مختلف بالكلية عمّا عهده في السابق. إن الحياة الجديدة مع المسيح تبدأ منذ اللحظة التي يؤمن فيها الإنسان. وبما أن هذه هي البداية فعلى المؤمن أن ينمو في الحياة المسيحية وفي معرفة الرب يسوع المسيح مخلّصه. ومن الملاحظ أن كثيرين من المؤمنين
يهتمون بموضوع سلوكهم الروحي، وهذا أمر جيد ومطلوب، لكنهم يهملون موضوع تجديد أذهانهم.
إن الذهن كما نعلم جميعاً هو الأساس في حياة الإنسان. صحيح أن الإيمان يبدأ في الذهن، وعندها يجدّد الله حياتنا، ويتبدل سلوكنا. لكن الذي يحدث عادة أننا نحرص على متابعة الاهتمام بسلوكنا، وكيفية ظهورنا للآخرين، ونهمل تجديد أذهاننا. مع أن المطلوب هو الاثنان معاً.
لقد حثّ الرسول بولس المؤمنين بالمسيح قائلاً: «وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ» (رومية 2:12). فما هو المقصود بتجديد الذهن يا تُرى؟ إن المقصود به هو تبديل نظرتنا إلى نفوسنا وإلى المجتمع أو العالم من حولنا. مع العلم أن تجديد الذهن في هذين المجالين سيساعدنا لكي نختبر ما هي إرادة الله: الصالحة المرضيّة الكاملة.
أولاً: نظرتنا إلى نفوسنا
إن الإنسان العتيق هو إنسان أناني، محب لنفسه فقط. وهذه حقيقة لا يستطيع أحد نكرانها. لكن المخلص المسيح طلب لمن يتبعه أن ينكر نفسه أولاً :«إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متى 24:16-25). وهذا بصريح العبارة يعني التخلّي عن أنانيتنا وحب الذات. وهذا الأمر لا يأتي فوراً ومباشرة بعد إيماننا، بل علينا أن نسعى إليه من خلال عملية تجديد الذهن اليومية المستمرة. وعندما نغلب أنانيتنا، لا نعود ننظر إلى نفوسنا بكبرياء، ويصبح من السهل علينا أن نتواضع، وأن نحب الآخرين، وأن نعمل مع إخوتنا المؤمنين بيد واحدة. لا بل تتبدل نظرتنا حتى إلى المال الذي نملكه. فنمد يدنا في المساهمة بعمل الرب وخدمة الإنجيل ومساعدة الآخرين. ولم يكن غريباً أن الرسول بولس بعدما تحدّث عن تجديد الذهن واختبار إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة، تكلّم عن أن لا يرتئي المؤمن فوق ما ينبغي أن يرتئي. « فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي، لِكُلِّ مَنْ هُوَ بَيْنَكُمْ: أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ، كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَارًا مِنَ الإِيمَانِ» (رومية 3:12). وهذا الأمر يحصل كنتيجة طبيعية لتجديد الذهن، والتخلّي عن أنانيتنا. وهكذا نرضى بما أعطانا إياه الله من موهبة أو خدمة. ونغلب بذلك أيضاً الحسد الذي هو من طبيعة الإنسان العتيق الفاسدة.
أما الرسول يعقوب فدعانا لكي نبيّن أعمالنا بالتصرّف الحسن في وداعة الحكمة. ثم قال: «إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ. لَيْسَتْ هذِهِ الْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. لأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَزُّبُ، هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ» (يعقوب 14:3-17). إن تجديد الذهن يساعدنا لكي ننتصر على الغيرة المرّة والتحزّب في قلوبنا، وهي من طبيعة الإنسان العتيق. وأن نضع مكانهما الحكمة الإلهية النازلة من فوق، والتي وصفها الرسول يعقوب: بالطاهرة، والمسالمة، والمترفقة، والمذعنة، المملوءة بالرحمة والأثمار الصالحة، عديمة الريب والرياء. حقاً إنها صفات سامية يتمناها كل إنسان. لكن المؤمن بالمسيح هو الوحيد الذي بإمكانه أن يحصل عليها. لهذا عليه أن يجدد ذهنه كل يوم ويراقب نفسه.
ثانياً: نظرتنا إلى المجتمع
أو العالم من حولنا
وهذا موضوع هام جداً، مُهمل مع الأسف كثيراً من الكنيسة المسيحية المعاصرة. فنجد أن الكثيرين لا تتبدل مواقفهم نحو المجتمع أو العالم من حولهم. فهم ما زالوا ينظرون إليه كما كانوا قبل الإيمان، وبوجهة نظر الإنسان العتيق. فنجد أن البعض لا زال يفرّق بين الأجناس البشرية، مع أن الجميع هم واحد بنظر الله. وهناك من لا يتحدث عن ضرورة الحدّ من الظلم، وإحقاق العدل في المجتمع. بالرغم من أن كلمة الله واضحة في هذا المجال. وكلنا نعلم الناموس الملوكي «تحب قريبك كنفسك». مع ما يستلزمه هذا من واجبات واضحة تجاه إخوتنا في الإنسانية؛ الأمر الذي أوضحه الرسول بولس في نفس الأصحاح الذي تحدّث فيه عن تجديد الذهن إذ تكلّم عن إضافة الغرباء، وعدم مجازاة الشر بالشر. ثم تطرّق إلى موقفنا حتى تجاه أعدائنا فكتب قائلاً: «لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ. فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ». لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ» (رومية 19:12-21). وهذا يؤكد أهمية تبديل نظرتنا وتجديد ذهننا في هذا المجال.
وفي نفس الوقت نرى البعض، مع الأسف، يؤيد برامج التسلح الكبيرة وشن الحروب. مع أن الرب يسوع المسيح الذي هو ملك السلام قال: «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ» (متى 9:5). أي على المؤمن أن يسعى من أجل السلام وينبذ الحرب. وكذلك دعانا الرسول بولس لكي نصلّي: «لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ. لأَنَّ هذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا اللهِ» (1تيموثاوس 2:2و3). وهذه إشارة واضحة أنه علينا أن نصلّي من أجل السلام وهدوء الأوضاع لكي تنتشر بشارة إنجيل المسيح. حتى في العهد القديم منع الله النبي والملك داود من بناء الهيكل، وكان السبب لأنه سفك دماء كثيرة. وَقَالَ دَاوُدُ لِسُلَيْمَانَ: «يَا ابْنِي، قَدْ كَانَ فِي قَلْبِي أَنْ أَبْنِيَ بَيْتًا لاسْمِ الرَّبِّ إِلهِي. فَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلاً: قَدْ سَفَكْتَ دَمًا كَثِيرًا وَعَمِلْتَ حُرُوبًا عَظِيمَةً، فَلاَ تَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي لأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الأَرْضِ أَمَامِي» (1أخبار 7:22-8). علينا إذن أن نجدد أذهاننا لكي تتبدل نظرتنا ونعمل على توطيد السلام ونبذ الحرب. لأن الإنسان بطبيعته القديمة الفاسدة يسعى للحرب ولا يطلب السلام.
لقد نطق الرب يسوع المسيح بالويل على الكتبة والفريسيين: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ» (متى 23:23). إن المسيح بتحذيره للفريسيين يدعونا إذن كمؤمنين لكي لا نكون مثلهم نهتم بالمظاهر والقشور فقط، بل أن نسلك بالحق (العدل) والرحمة والإيمان. وأن تكون عندنا بالتالي نظرة جديدة نحو المجتمع والعالم، هي نظرة الحق أي العدل، والرحمة والإيمان. وهذه النظرة لن تتحقق إلا إذا جددنا أذهاننا لكي تتلاءم مع الطبيعة الروحية الجديدة التي حصلنا عليها.
فهل ترانا نهتم بتجديد أذهاننا في الإطار الشخصي وفي إطار المجتمع الذي نعيش فيه، كاهتمامنا بنمو حياتنا الروحية؟ وعندها نختبر بالفعل إرادة الله الصالحة المرضيّة الكاملة!