حزيران June 2010
كانت خدمة الرب يسوع المسيح الجهارية قصيرة المدة «بحسب قصده الأزلي»، أي اثنين وأربعين شهراً فقط ختمها بموته الكفاري على الصليب، ودفنه، وقيامته في اليوم الثالث حسب الكتب، وصعوده إلى السماء، بعد ظهوره لكثيرين حياً وإعطاء تلاميذه المأمورية العظمى بمتابعة عمل البشارة حتى إلى أقصى الأرض.
وخلال تلك المدة كان - له المجد - يجري في سحابة يومه العديد من المعجزات التي دوّن البشيرون بعضاً منها في الإنجيل بحسب إرشاد الروح القدس. بالإضافة إلى تلك التي يمكننا أن ندركها من سياق كلمات الوحي المقدس: كمعرفة الغيب، وقراءة النوايا والأفكار، وإنارة البصائر، وتجديد النفوس التي لا يستطيع فعلها أي مخلوق بشري! وكانت في تعددها وتفاصيلها أعظم مما تستطيع كتب كثيرة احتواءها كما يقول البشير يوحنا في خاتمة بشارته: «وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع، إن كُتبت واحدة واحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة» (يوحنا 25:21). وهذا يظهر لنا أن الروح القدس اختار بعض المعجزات كي تُدوَّن في البشائر كنماذج تعليمية في معناها ومبناها، لكي لا تشغل القارئ أو السامع مع المتأمل في حياة يسوع عن الغاية العظمى التي قصد الرب تحقيقها بمجيئه إلى العالم ألا وهي عمل الفداء العظيم الذي أتمّه على الصليب وتوَّجَه بالقيامة من الأموات هازماً قوات الظلمة، وهو قمة جميع المعجزات!
والواقع أن معجزات المسيح لا حصر لها، ولم يأتِ قول البشير يوحنا الآنف ذكره من فراغ، أو من قبيل المبالغة والتهويل، فالإنجيل يشهد بعضه لصحة بعضه مؤيّداً بآياته وليس بالتخريجات والأقاويل. ودليلنا على ذلك ما أورده البشير متى كمثال من ضمن أمثلة أخرى كثيرة:
1- «وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب. فذاع خبره في جميع سورية. فأحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة، والمجانين والمصروعين والمفلوجين، فشفاهم».
(متى 23:4-24)
2- «فلما عبروا جاءوا إلى أرض جنيسارت، فعرفه رجال ذلك المكان. فأرسلوا إلى جميع تلك الكورة المحيطة وأحضروا إليه جميع المرضى، وطلبوا إليه أن يلمسوا هدب ثوبه فقط. فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء» (متى 34:14-36).
3- «ثم انتقل يسوع من هناك وجاء إلى جانب بحر الجليل، وصعد إلى الجبل وجلس هناك. فجاء إليه جموع كثيرة، معهم عرج وعمي وخرس وشلٌّ وآخرون كثيرون، وطرحوهم عند قدمي يسوع. فشفاهم حتى تعجب الجموع إذ رأوا الخرس يتكلمون، والشلّ يصحّون، والعرج يمشون، والعمي يبصرون. ومجدوا إله اسرائيل» (متى 29:15-31).
4- «أما يوحنا (المعمدان) فلما سمع في السجن بأعمال المسيح، أرسل اثنين من تلاميذه، وقال له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهَّرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون. وطوبى لمن لا يعثر فيّ» (متى 2:11-6).
وسأعلّق على هذا النص الأخير فقط.
1- قد نستغرب من صدور هذا التساؤل عن رجل جاء أصلاً ليهيّئ الطريق أمام المسيح تتميماً للنبوّة «صوت صارخ في البرية: أعدّوا طريق الرب. قوّموا في القفر سبيلاً لإلهنا» (إشعياء 3:40). وهو يعرف ما أشارت إليه النبوّة القائلة: «حينئذ تتفقّح عيون العمي، وآذان الصم تتفتح. حينئذ يقفز الأعرج كالإيّل ويترنّم لسان الأخرس» (إشعياء 5:35-6). لذا فقد كان جواب الرب له مدعوماً بالوقائع التي تحقّق تلك النبوّة وغيرها.
2- إن ذلك الشك والتساؤل إن دلاّ على شيء فإنما يدلاّن على ضعف الإنسان مهما بلغ من الروحانية. فعندما يتعرّض لتجربة قاسية تهدد حياته الأرضية فإنه يشك لأنه لا يستطيع أن يدرك مقاصد الله وخطته الصالحة لنفسه.
3- لقد أجرى الرب يسوع كل تلك المعجزات المشار إليها في فترة وجيزة وهي فترة وجود تلميذَي يوحنا عنده اللذين حملا إليه سؤال يوحنا فأعطاهما الجواب المحسوس.
4- كانت أولى المعجزات التي أشار إليها الرب في جوابه «العمي يبصرون» وهي الإشارة الصريحة في الكتاب للدلالة على شخصه وليس على آخر قدر أن يفتح العيون العمياء، ولا بدّ أن أنوّه إلى أن التدرّج في تلك المعجزات وصل في نهاية المطاف إلى قوله: «والمساكين يُبشَّرون»، وقد جاءت بعد قوله: «والموتى يقومون» حيث أن الرب يعتبر معجزة خلاص المساكين بالروح هي أعظم المعجزات في نظره وأهمها. ونكتفي بما جاء في بشارة متى وحدها.
فما هي الصفات الفريدة التي اتصفت بها معجزات المسيح؟
أولاً: إن معجزات الرب يسوع المسيح كانت مهيئة في المشورات الأزلية قبل التجسد ومعروفة في نبوات الأنبياء كما تقدم في إشعياء 5:35، وهي تَدْمَغُ فترة وجود المسيح على الأرض، ولا يتمتّع بمثلها أحد آخر من بين الأحياء الذين جاؤوا إلى هذه الغبراء.
ثانياً: إن معجزات الرب يسوع المسيح هي معجزات ذاتية. فعلها جميعاً بقوة لاهوتيته كصاحب السلطان العظيم، فكان يقول للشيء كن فكان. جاءه يوماً رجل أبرص وسجد له قائلاً: "يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني. فمدّ يسوع يده ولمسه قائلاً: أريد فاطهر وللوقت طهر من برصه» (متى 2:8-3). كان لمس الأبرص ممنوعاً حسب الشريعة. والشخص الذي يلمسه يتنجّس، وكان ذلك المرض شديد العدوى، ولكن يسوع لم يكن ليحسب حساباً لهذا أو ذاك لأنه صاحب سلطان ذاتي غير محدود. لقد قبل السجود وشفى الأبرص بكلمة واحدة، فهل هنالك من يشك بقدرته الذاتية ولاهوته؟
ثالثاً: معجزات المسيح كانت أعمالاً كاملة. فلقد استكملت جميع أغراضها النعموية . يحدثنا البشير مرقس في الأصحاح الثاني من بشارته عن وجود يسوع في بيت في كفرناحوم يكرز بالكلمة. «وجاءوا إليه مقدمين مفلوجاً يحمله أربعة. وإذ لم يقدروا أن يقتربوا إليه من أجل الجمع كشفوا السقف حيث كان وبعد ما نقبوه دلّوا السرير الذي كان المفلوج مضطجعاً عليه» (مرقس 3:2-4). «فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج يا بنيّ مغفورة لك خطاياك» (ع 5). ظنّ أصدقاء المفلوج أن الأوْلى هو شفاؤه جسدياً واشتكى الكتبة والفريسيون معتبرين أن هذا الكلام تجديف «من يقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده». وربما ظنت فئة ثالثة أن سبب مرض ذلك الإنسان كان الخطية... لكن يسوع صحّح كل المفاهيم وأخبرهم أن شفاء الجسد أيسر من شفاء الروح. وأمر المفلوج بعد أن أكمل شفاءه الروحي والجسدي «قم واحمل سريرك واذهب الى بيتك» (ع 11). فكم مفلوج كهذا كان يحتاج إلى معالجة فيزيائية بعد شفائه العضوي، ولكن معجزات المسيح كانت كاملة في مفعولها، في النفس والروح والجسد.
رابعاً: لقد كانت معجزات المسيح شاملة لجميع النواحي التي يجوز فيها الإعجاز لأنه «الله الظاهر في الجسد» والذي «دُفع إليه كل سلطان في السماوات وعلى الأرض».
لقد كان للرب يسوع سلطان على الطبيعة. فقد هدّأ الأمواج وسكّن الرياح.
وكان له سلطان على عالم الأرواح حيث كانت الملائكة تأتي لتخدمه والأرواح الشريرة تصرخ هاربة حين ينتهرها الرب.
وكانت له القدرة على الخلق. فقد خلق أشياء لم تكن موجودة كإيجاد عينين جديدتين لأعمى كان قد فقدهما منذ طفولته، وإكثار الطعام لإشباع الألوف.
وكان له سلطان على الموت والحياة. أقام الكثيرين من الموت وأعاد لهم الحياة.
وكان له سلطان على جميع أنواع الأمراض والضعفات «جال يصنع خيراً ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب».
وكان له سلطان على عالم المادة أيضاً، فقد حوّل ما في فم السمكة إلى ذهب ليدفع به بطرس الجزية.
والأهمّ من ذلك كله فقد كان له سلطان على عالم الروح، فقد غيّر حياة الكثيرين وجعلهم أبراراً إذ خلّصهم من عبودية الخطية والشيطان وجعلهم أولاداً لله بالروح ومنحهم الحياة الأبدية، بعد أن غفر خطاياهم غفراناً كاملاً.
أما أهداف المسيح من صنع المعجزات فقد كانت مختلفة عن جميع الأهداف الأخرى التي ظهرت من وراء صنع بعض المعجزات من قِبل أنبياء العهد القديم وغيرهم.
أولاً: إن جميع معجزات الرب يسوع - له المجد - كانت لخير العالم والبشرية جمعاء إظهاراً لمحبة الله وغنى نعمته ولطفه. فهو لم يأمر بضربات كما فعل موسى (خروج ص 5-12)، ولم يلعن الذين عيّروه كما فعل أليشع (2ملوك 24:2)، ولم يطلب أن تنزل نار من السماء وتأكل القائمين عليه كما فعل إيليا (2ملوك ص1). وحين غضب تلميذاه يعقوب ويوحنا على قرية من السامرة رفضتهم وإياه وطلبا منه أن يسمح لهما بأن يطلبا نزول نار من السماء «فالتفت وانتهرهما وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس بل ليخلّص» (لوقا 55:9-56).
ثانياً: لم يكن يسوع يجري أية معجزة لفائدته الشخصية ولا لتمجيد ذاته، فمعجزة ولادته العذراوية وموته وقيامته كانت كافية لإعلان مجد ناسوته في قدرة لاهوته. ولكن معجزاته جميعاً كانت تهدف لتمجيد اسم الله الآب. وكان يأمر الذين تجرى لهم المعجزات أن يكتموا أمرها ولا يتحدثوا بها، لئلا يتبعه الناس لأجل المعجزات ذاتها.
ثم إنه - له المجد - لم يحتفظ بالسلطان لفعل المعجزات لنفسه بل تفرّد وحده بمنح هذا السلطان لتلاميذه ولجميع المؤمنين الحقيقيين بشخصه. «الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها لأني ماضٍ إلى أبي» (يوحنا 12:14).
ثالثاً: كانت معجزات الرب يسوع تهدف لاسترداد النفوس من سلطان إبليس وإعلان ملكوت الله على الأراضي والنفوس التي كان الشيطان قد سلبها.
فيا له من ربٍ قادر، محبّ، رائع في لطفه، عظيم في سلطانه كما تنبأ عنه إشعياء: «لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام» (إشعياء 6:9).