آب Agust 2010
أرأيتم جباراً يعجز عن الخلاص، أو حكيماً تضعف حيلته عن أن يقدم مشورة أو نصحاً أو توعية؟ عندما نحكّم العقل والمنطق سوف نجد أن الإجابة بالنفي، مع أن الإنسان عرضة للضعف والوهن والإصابة بأمراض الشيخوخة المبكرة وهو في ريعان الشباب... فإن كان العقل والمنطق يمليان علينا الاعتقاد أن الجبار لا يعجز عن الخلاص، والحكيم لا يتحيّر، فكم بالأحرى الإله العظيم الذي ليس فيه تغيير ولا ظلّ دوران؛ الإله
الحكيم الوحيد الذي له المجد والعظمة والقدرة والسلطان الآن وإلى كل الدهور؟
أليس هو الذي خلق بقوته وقدرته السماوات والأرض وما عليها؟ أليس هو الذي شقّ البحر ليعبّر شعبه في اليابسة، وشقّ نهر الأردن ثلاث مرات؟!... "المحوّل الصخرة إلى غدران مياه، الصوان إلى ينابيع مياه" (مزمور 8:114).
بقوته شفى الأمراض باختلاف أنواعها... طهّر البرص... فتح عيون العميان... أقام الموتى... فكيف يتساءل إرميا مستخدماً أسلوباً أقلّ ما يُقال عنه أنه يسيء إلى الله؟ "لماذا تكون كإنسان قد تحير، كجبار لا يستطيع أن يخلّص؟" (إرميا 9:14). ولكن لن أقسو عليه لأنه تحدّث بعد ذلك مُقرّاً بأمجد الحقائق وطالباً أعظم الطلبات.
وللفائدة نتأمل في ثلاثة أمور:
أولاً: سؤال المتضايق
ثانياً: الإقرار الصادق
ثالثاً: طلبة الواثق
أولاً: سؤال المتضايق
يتحدث الوحي المقدس عن الإنسان ويقول: "الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً". ومع أن الكتاب يذكر عن الإنسان أنه لا يشبع، العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع، لكنه من جهة التعب هو شبعان منه سواء كان باراً أم شريراً... يقول الكتاب عن البار: "كثيرة هي بلايا الصديق". وعن الأشرار "كثيرة هي نكبات الشرير". ولكن ما أكبر الفرق بين موقف المؤمنين في تجاربهم وموقف الأشرار منها! المؤمنون دائماً يشكرون وعلى الأكثر يعبرون عن مشاعرهم ببعض التعليقات أو التساؤلات. أما الأشرار فإنهم في تجاربهم يجدفون على الرب في وجهه. ولن أتحدّث عن تصرفات الأشرار في تجاربهم بل عن أقوال بعض المؤمنين في الكتاب المقدس:
تضايق يعقوب أبو الأسباط عندما طلب أبناؤه أن يصحبوا أخاهم بنيامين معهم إلى مصر! فقال: "يوسف مفقود، وشمعون مفقود، وبنيامين تأخذونه. صار كل هذا عليّ".
ولما تضايق داود قال: "قد رأيت الشرير عاتياً وارفاً مثل شجرة شارقة ناضرة".
وآساف عندما تضايق قال: "غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنه ليست في موتهم شدائد وجسمهم سمين...".
ولما تضايق أيوب إذ دخل في تجارب مرة وقاسية عندما فقد كل ممتلكاته، وكل أولاده وبناته، ثم صحته... بدأ يتساءل قائلاً: "لماذا تحيا الأشرار ويشيخون، نعم ويتجبّرون قوة؟".
وإرميا في ضيقه يتساءل: "لماذ تُنجِح طريق الأشرار؟".
وحبقوق يقول في ضيقاته: "عيناك أطهر من أن تنظرا الشر، ولا تستطيع النظر إلى الجور...".
وهذه المواقف والتساؤلات معقولة إلى حدّ ما ومقبولة. ولكن عندما نأتي إلى السؤال الذي نطق به إرميا في وقت القحط نراه سؤالاً ليس في محلّه لأنني أراه مسيئاً للعزّة الإلهية.
أحبائي، ينبغي عندما ندخل في ضيقة أياً كان نوعها أن نتّخذ جانب الصمت حتى ندرك سر سماح الرب لنا بهذه التجربة ولا نتسرّع بنطق كلام مسيء قدام الرب. "لا تستعجل فمك ولا يسرع قلبك إلى نطق كلام قدام الله. لأن الله في السماوات وأنت على الأرض فلذلك لتكن كلماتك قليلة" (جامعة 5:2). نصمت لكي نعطي لأنفسنا الفرصة لنتذوّق الكلام قبل أن ننطق به، ونصمت أيضاً لكي نرى حقائق مهمة وهي أن الله يرى ضيقاتنا. "فقال الرب: إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم... علمت أوجاعهم". ثم نرى أن الله لا يتركنا فيها "فنزلت لأنقذهم". أليس هذا ما فعله مع الفتية الثلاثة... نزل معهم ورافقهم في النار؟ صحيح أنه لم يخرجهم منها فور نزولهم فيها، لكنه غيّر تأثيراتها فجعلها جنة يتمشون فيها بعد أن كانت ناراً أحرقت قيودهم.
عزيزي القارئ، لا تعطِ التجربة فرصة لتعصب عينيك وتغلق عقلك، فيتوقّف تفكيرك وتتسرّع بعبارات مسيئة لله أو غير واقعية كأنك تقول: "إلى متى يا رب تنساني كل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عني؟" أو أن تضم صوتك إلى صوت صهيون قائلاً: "قد تركني الرب، وسيدي نسيني". أو تقول مع إرميا: "لماذا تكون كإنسان قد تحيّر، كجبار لا يستطيع أن يخلّص؟". حقاً لا يجب علينا أن نقسو على إرميا لأنه سأل هذا السؤال الغريب، ذلك لأنه نطق بأمجد وأعظم الحقائق المباركة، وهذا ما يقودني إلى الكلمة الثانية:
ثانياً: الإقرار الصادق
أقرّ إرميا بحقيقتين من أعظم وأروع الحقائق:
1- "وأنت في وسطنا يا رب"
يا لها من حقيقة واقعية تملأ القلوب بالأفراح والهناء، وتبدّد كل الآلام والشقاء.. تنسينا تجاربنا وتبدّد آلامنا! وما أكثر الآيات في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد التي تثبت حقيقة وجود الرب في الوسط! ففي خروج 45:29-46 يقول الرب: "وأسكن في وسط بني إسرائيل وأكون لهم إلهاً... لأسكن في وسطهم. أنا الرب إلههم".
وفي لاويين 11:26-12 يقول الرب: "وأجعل مسكني في وسطكم، ولا ترذلكم نفسي. وأسير بينكم وأكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعباً". وأيضاً، "الرب في وسطها فلن تتزعزع. يعينها الله عند إقبال الصبح". "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم". "وقف الرب في الوسط وقال: سلام لكم". "وفي وسط السبع المناير شبه ابن إنسان، متسربلاً بثوب إلى الرجلين".
إن وجود الرب في الوسط يعني قرب الرب منا ليسرع في معونتنا وينقذنا... فإن لم يكن في الهزيع الأول أو الثاني أو الثالث فلا بدّ أن يتم إنقاذنا في الهزيع الرابع.
2- "وقد دُعينا باسمك"
نُدعى باسم الرب، أي أن اسم الرب يُطلق علينا. عندما يطلق اسم عظيم من عظماء الأرض على إنسان، يفتخر به افتخاراً عظيماً! فكم بالحري عندما يُطلق علينا اسم الرب الذي قال عنه موسى في ترنيمته مع بني إسرائيل: "يمينك يا رب معتزّة بالقُدرة... من مثلك معتزّاً في القداسة، مخوفاً بالتسابيح، صانعاً عجائب؟" (خروج 6:15 و11).
رفع دانيآل النبي صلاة رائعة قال فيها: "أمِل أذنك يا إلهي واسمع. افتح عينيك وانظر خربنا والمدينة التي دُعي اسمك عليها، لأنه لا لأجل برنا نطرح تضرّعاتنا أمام وجهك، بل لأجل مراحمك العظيمة. يا سيد اسمع. يا سيد أصغِ واصنع...".
وأهم شيء يجب أن نلاحظه أن من يُدعى باسم الرب فهو ابنه. "وأما كل الذي قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه".
قال أحد العابرين: لما أمسكت الكتاب المقدس وبدأت أقرأ فيه، فما أن وصلت إلى كلمة "أبانا" فاتحة الصلاة الربانية، حتى توقّفت أمامها قائلاً: "الله... يا لعظمة هذه العلاقة بين الله والإنسان! علاقة الأبوّة والبنوّة... فأن يكون الله أبونا ونحن أولاده، فهذا مجد ما بعده مجد، ورفعة ما بعدها رفعة، وفرح ما بعده فرح!"
قال المسيح لتلاميذه: "لا أعود أسمّيكم عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سمّيتكم أحبّاء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يوحنا 15:15).
يحقّ لنا أن نهتف بملء شدقينا قائلين: "انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله!".
ثالثاً: طلبة الواثق "لا تتركنا"
هذه الطلبة إن دلّت على شيء إنما تدلّ على تمسّك إرميا بوجود الرب في الوسط. وهنا أوجّه كلامي إلى كل مؤمن: هل تتخيّل أن الله ممكن أن يتركك؟ كلا يا أحبائي، فهو لا يتركنا بل هو في الوسط، يرافقنا بدليل قوله: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر".
لو تركنا الرب لضاعت حياتنا. فإن وجوده يحفظنا كما يقول المرنم:
لولا مسكِة إيدَكْ إنتَ كنت أضيعْ ويّا اللي ضاع
أنا مش أفضل منِ اللي خان وانكر وللي باع
قلبي مديونْ لك يا غالي عمري كله أعيش أسيرْ
نعمتك رأَفت بحالي وراح تكمّل يا قدير
لا تتركنا لأننا بدونك لا نقدر أن نفعل شيئاً.
نعم، إنه لا يتركنا فريسة للمرض... ولا يتركنا عرضة للظروف والصدف... لا يتركنا لعبة في يد الشيطان ليفعل بنا كا يريد.
لقد وعد الرب بأن لا يتركنا! قال الرب ليعقوب: "لأني لا أتركك..."، ويقول بلسان كاتب العبرانيين: "لأنه قال: لا أهملك ولا أتركك حتى إننا نقول واثقين: الرب معين لي فلا أخاف. ماذا يصنع بين إنسان؟".