تشرين الأول Oct 2010
شبّه أحدهم هذا الشاب بسفينة ضخمة جميلة المنظر، محمّلة بأغلى البضائع وأفخمها، ليس بها عيوب إلا عيب واحد، قد يكون بسيطًا في نظر الناس، لكنه خطير جدًا في حقيقته... إنه ثقب صغير جدًا في جسم السفينة، تتسرب منه المياه ببطء شديد. وبمرور الوقت تمتلئ السفينة بالمياه وتغرق... كان لهذا الشاب مواصفات يندر أن تجتمع كلها في شخص واحد... شاب في عنفوان شبابه، غني جدًا، يشغل منصبًا قياديًا
مرموقًا ويتحلّى بامتيازات عظيمة وهي اهتماماته الدينية... وبالرغم من كل هذا لم يصل إلى ما كان يصبو إليه روحيًا. نقرأ عنه أنه التقى بالرب يسوع وقدّم له سؤالاً هو غاية في الأهمية: "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟".
"فقال له يسوع... أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلُبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ: يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ. فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ" (مرقس 18:10-22).
وللفائدة أقود تأملاتكم في ثلاثة أمور:
أولاً: صفات عظيمة
ثانيًا: طلبة حكيمة
ثالثًا: نهاية أليمة
أولاً: صفات عظيمة
كان لهذا الشاب امتيازات أوجزها فيما يلي:
1- قوة جسدية: يذكر الوحي المقدس في إنجيل متى أنه شاب، وهنا في مرقس ركض. من هذين الأمرين نرى أنه كان يتمتّع بقوة جسمانية. فـ "حفظة البيت" لم تتزعزع بعد، و"رجال القوة" لم تتلوّ بعد، و"الطواحن" لم تبطل، و"النواظر من الشبابيك" لم تظلم بعد... القوة الجسدية بركة عظيمة لا يشعر بها إلا من حُرم منها.
2- سلطة قيادية: يقول لوقا البشير عن هذا الشاب أنه رئيس... كان يتمتّع بمركز قيادي مرموق. أتخيّل هذا الشاب جالسًا في مقرّ عمله على كرسيٍّ عالٍ ومرتفع، وحوله حركة دؤوبة لا تتوقّف من فئات العاملين عنده ومن الذين لهم مصالح مشتركة. الكل منتظرون أوامر ذلك السيد وهم على أهبة الاستعداد لتنفيذها دون تردد أو تأخير أو تراخٍ. يذكّرني هذا بقائد المئة الذي قال للرب يسوع: "لأَنِّي أَنَا أَيْضًا إِنْسَانٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ. لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. أَقُولُ لِهذَا: اذْهَبْ! فَيَذْهَبُ، وَلآخَرَ: اءْيتِ! فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِيَ: افْعَلْ هذَا! فَيَفْعَلُ". رأيت بعيني أناسًا في مراكز قيادية لا يتوقفون عن الأوامر، والنواهي، والصراخ، والتهديد، والسبّ، والشتم، وخصم أيام من العاملين لسبب أو آخر.
3- الثروة المادية: اتفق البشيرون الثلاثة متى، ومرقس، ولوقا على أن هذا الشاب كان غنيًا، وغنيًا جدًا... يمكننا أن نقول عنه أنه مليونير أو ملياردير بأسلوب أيامنا... ولم يذكر لنا الكتاب المقدس كيف جمع هذه الثروة. هل ورث جزءًا منها عن والديه أم كان عصاميًا بدأ من الصفر وجاهد مواصلاً ليله بنهاره لجمع هذه الثروة؟ لكني التقطت عبارة قصيرة تحدّث بها الرب يسوع لهذا الشاب أوضحت بأنه جمع جزءًا كبيرًا منها بطرق غير مشروعة... قال له يسوع: " أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلُبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ". إن عبارة "لا تسلب" لم ترد ضمن الوصايا العشرة. فلو جمع هذا الشاب ثروته بالطرق المشروعة فقط، لاكتفى الرب يسوع بقوله "لا تسرق".
قد يتساءل البعض: وهل الغنى خطية؟ ألم يكن أبرام ولوط غنيين حتى أن الأرض لم تسعهما معًا... إن الغنى ليس خطية إذا جُمع بطرق مشروعة ويُستخدم لفعل الخير، وافتقاد اليتامى، والأرامل، وإشباع الجياع، وكساء العراة.
4- الاهتمامات الروحية: ظهرت اهتماماته الروحية في ثلاثة أمور: الأول مجيئه للرب يسوع وإصراره على مقابلته. والثاني هو سؤاله الذي وجهه للرب يسوع: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ والثالث قوله عن الوصايا: هذه كلها حفظتها منذ حداثتي. أحبائي، إن مجرد الاهتمامات الروحية لا تفيد. ألم يكن للسامرية الشريرة التي كان لها خمسة أزواج والذي معها ليس زوجها اهتمامات روحية، والتي أعلنت عنها للرب يسوع: "آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ"؟
أعرف أشخاصًا يحفظون أجزاء كبيرة من كلمة الله تصل إلى أسفار كاملة، ولكن بكل أسف بعيدون كل البعد عن الرب؛ لمثل هولاء يقول الرب يسوع: "يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا".
ثانيًا: طلبة حكيمة
الطلبة هي: "أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟"، ونلاحظ فيها ثلاثة أمور:
1- استهلال وتحية: استهل هذا الشاب طلبته بتحية وجهها للمسيح "أيها المعلم الصالح". وهذه العبارة قوبلت بثلاثة مواقف مختلفة:
الموقف الأول هو الاستهجان إذ اعترض عليها بعض الناس لأنها ليست كافية. فيسوع ليس معلمًا صالحًا فقط بل هو الله المتجسد الذي لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله.
والموقف الثاني هو الاستحسان، إذ أن التلاميذ استخدموا نفس كلمة يا معلم التي استخدمها هذا الشاب:
"يا معلّم، أما يهمك أننا نهلك"، "يا معلّم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئًا". والمسيح نفسه قالها أيضًا: "قُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ: إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ".
والموقف الثالث هو موقف الرب يسوع. "فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ". اتخذ أعداء المسيح هذه العبارة لنفي لاهوته، ولكن الحقيقة التي أعلنها المسيح هي عكس ما وصل إليه أعداؤه؛ أي أنت تقول عني أني صالح، وليس أحد صالحًا إلا الله وحده، فلماذا لا تدعوني إله؟
2- دوافع قوية: تُرى، ما الذي دفع هذا الشاب لطلب الحياة الأبدية؟ لا شك أن ما دفعه لها هو أنه يريد أن يعرف أشياء جديدة لم يعرفها من قبل، فلجأ للرب يسوع لأن له دراية بكل شيء، وله سلطان توريثه الحياة الأبدية. ثم أيضًا دفعه لهذا السؤال يقينه أن الحياة الأرضية ستنتهي يومًا من الأيام، وما نهايتها إلا بداية لحياة أخرى مختلفة تمامًا عن الحياة الأرضية، إذ أنها أبدية، وبذلك أثبت أنه ليس من فئة الصدوقيين الذين لا يؤمنون بقيامة الأموات. وأمر آخر دفعه لهذه الطلبة هو رؤيته أنه ينقصه شيء هام، ورأى في نفسه استعدادًا لتنفيذه... يريد أن يتمتّع بالحياتين الأرضية والأبدية.
3- طريقة نموذجية: قدّم الشاب طلبته للرب يسوع بطريقة نموذجية وأسلوب رائع. قدمها بسرعة إذ يقول الكتاب عنه أنه "ركض". لم يمشِ بتمهّل بل ركض اغتنامًا للفرصة، فقد تكون الأخيرة. والركض ربما يعرّضه للتهكم والسخرية من بعض الناس. موقفه هذا عكس موقف لوط الذي كان الملاكان يعجّلانه للخروج من سدوم، لكنه توانى وتباطأ. قد يركض البعض للحصول على جوائز مادية فانية أما هذا الشاب فركض للحصول على الحياة الأبدية.
ثم قدم هذا الشاب طلبته للرب يسوع بتواضع. فالكتاب يقول أنه جاء جاثيًا ساجدًا... سجد إكرامًا وتذللاً، عكس بعض الأغنياء الذين يتعالون على الآخرين.
ثالثًا: نهاية أليمة
لو تابعنا المشهد حتى النهاية، نرى أن هذا الشاب لم يصل إلى ما كان يصبو إليه...صحيح أنه ركض وجثا وطلب من المسيح أن يرشده ماذا يفعل ليرث الحياة الأبدية، وعندما قال له المسيح: أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا... فرح الشاب وأجابه: "يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي"؛ إذًا الأمر لن يكلفني شيئًا... ولكن ما أن قال له المسيح: "يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ"، حتى "اغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ". كان ينبغي أن يتذكر أنه عُرْيَان خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّه، وَعندما يموت لن يأخذ من أمواله شيئًا.
قرأت عن الإسكندر الأكبر أنه طلب أن تُخرج يديه من فتحتين في نعشه ليعرف الجميع أن الذي ملك العالم خرج بيدين فارغتين.
حقًا، ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه.