تشرين الأول Oct 2010
وشاء ربي أن أُزَجَّ في غياهب السجن الرهيب، وأن أكونَ وحيدًا هناك من دون رفيقٍ أو حبيب. ليس الوحيد في الزنزانة فحسب، بل السجين الأوحد في بناءٍ حديث ليس فيه إلا الرقيب. وفي غرفةٍ ضيقة رحتُ أقيسُ طولها بالأقدام، وعرضها بأكفيّ والأشبار، وسقفها بقامتي الفَارعة، حُجِزت هناك بين أربعة من الجدران، وبعيدًا عن كل ما يُحيي الجسد وينعش الفؤاد. وارتسمتْ صورةُ زوجتي أمامي وبين يديها طفلتُنا وطلعةُ وجهها البهية،
وصممت أنني سأفديهما بروحي وحياتي إن امتدت إليهما يدُ الظالمين والمخبرين. وهناك قبعتُ في زاويتي المعتمة، أسأل ربيَ العظيم عن سبب سماحه لي في هذا السجن الأليم. وتراكمتِ الأسئلةُ في رأسي وتزاحمتِ الأفكار وبتُّ من كثرتِها محتارًا وأنا أجتاز هذه المحنةَ لأول مرة في الحياة.
أنا الذي درستُ وتعلّمت، واشتغلتُ وأنجزت. أنا الذي جاهدتُ وتعبتُ، وخدمتُ. أنا الذي ما زلتُ في ريعان الصبا، لم أعبرْ بعدُ ربيعيَ الثلاثين، أنا الذي صرتُ زوجًا لفتاة أحلامي وأبًا لفلذةِ كبدي، أرى نفسي قابعًا الآن في سجن رهيب ليس من أجل شيء ارتكبتُه مريب، أو ذنبٍ قد اقترفتُه معيب. وليس من أجل زلَّةٍ أو جُنحة أو أذيَّة، أو من أجل اعتداءٍ أو فحشاء.. كلاَّ بالكلِّيّة. بل السبب، وبكل بساطة يا إخوتي، هو من أجل إيماني السّديد بخالقي ربي العظيم، والابنِ الوحيد الصانعِ الفداءَ الأكيد، والروح القدس المحيي والرشيد. أزالَ روحُ الله الغشاء عن عينيَّ معلنًا بذلك محبة الله ليَ، إذ فدى الله نفسي وغفر إثمي وخطيتي من العذاب في الأبدية بواسطة الابن الوحيد الذي أخلى نفسَه وصار بشرًا بحسب مقاصد الله الأزلية. وهنا فاضت دموعي في مآقيَّ لحظةَ تذكُّري لفاديّ وقلت في سرّي، أنا الذي غَفر لي ماضيّ، "في طريقك أسير ولست عنك أَحيدُ، فأنت معلمي العظيم، ومعي هنا في غياهب السجن الرهيب تمامًا كما كنت مع بولس وسيلا وباقي الأتباع والتلاميذ بشخصك المهيب. وإنني أثرَ خطاكَ أتبع منذ سلّمتك النفسَ والكيان. ومعك لن أخاف ما دمتَ معي حتى نهاية المطاف". وللحال، دبَّت الثقة في نفسي الكليلة المرهقة، وتدفَّق الأمل كنهر جارف في قلبي، وصار لساني يسبّح من جديد ويشكر القدير لأنه سبقني في هذا الدرب وعبّد لي بجسده ونفسه وروحه هذا الطريق المملوء ليس بالياسمين، بل المحفوف بالمخاطر والآلام والأنين. ولم أجدْ نفسي إلا وقد غدتْ في سلام، والاطمئنانُ عمَّ القلب والوجدان وكل الكيان. فغفوْتُ على أرض الغرفة حتى الصباح حين أفقتُ على صوت الحارس الأجش وهو يفتح باب زنزانتي ويدفع بطبق الطعام في وجهي.
وبقيت على هذه الحال أيامًا عديدة، ومن ثم أسابيع. اعتدتُ فيها على طريقة العيش الفظَّة، وفراقِ شريكة الحياة الأليم، والانسلاخِ عن عصفورتي والتغريد. وشيئًا فشيئًا صارت حواسي من لمسٍ وشمٍ وذوق وبصرٍ تُفقد رويدًا رويدًا. فليس هناك ما أحسُّ به حين ألمسه سوى الجدران الباردة من حولي والأرض من تحتي. ولم أعدْ أنعمُ بالشمِّ لأنَّ رائحةَ السجن الكريهة قد علِقت في أنفي. وذوقي قد تأثَّر هو الآخر بسبب الطعام غير المرغوب. أما بصري فلم يرَ قطُّ نورًا منذ أن قبعتُ هناك في الظلام الدامس. لكنَّ حاستي الخامسة هي التي ازدانت ولمعت بفعل سيدي الحبيب الذي لم يفارقْني ولا للحظة. فلقد اعتدْتُ على أن أسمعَ صوته المرهف والخفيف يهمس في أذني ويقول لي: "طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السماوات" (متى 5: 10-12).
وفي إحدى الليالي وبينما أنا أفكر في طفلتي الصغيرة وزوجتي الحبيبة وإخوتي وأخواتي في الإيمان الذين كانوا يصلّون من أجلي، إذا بي أسمع صوته من جديد يقول لي: "سلامًا أترك لكم سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب" (يوحنا 27:14). وهنا سجدتُ على الأرض شاكرًا على تعزيته الحقيقية لي لأنَّ سلامه فعلاً قد تسرَّب إلى قلبي وفكري وكياني كلِّه. وخلال لحظات، إذا بي أسمع قرعًا على باب الزنزانة، وتناهى صوت الحارس الأجش إلى مسمعي وهو يأمرني بالخروج. ولما فعلت فوجئت براعيَّ وصديقي وشريكي في الخدمة ماثلاً أمامي هو وزوجتي الحبيبة وابنتي الغالية. فهرعت طفلتي إليَّ بشوق وحنين كبيرَيْن، لكنَّ الحارس دفعَها عني بقوة وفظاظة، وقال لي: من غير المسموح لكَ أن تحتضن طفلتك بل تتكلَّم معها من بعيد. فهذه هي الأوامر. عندها نظرْتُ إلى صديقي وقلتُ له: أرجوكَ أن تحتضن زوجتي وابنتي بدلاً عني فأنا أريد أن أعبِّر لهما عن شوقي الكبير إليهما وفرحتي برؤيتهما. نعم، في غياهب السجن يشعر الإنسان بالذلِّ والهوانِ والحرمانِ والظلم المُهين. هناك في غياهب السجن يعامِلُ الإنسان أخاه الإنسان بالحقد والكره والأنانية والازدراء. وبعد أن انتهت الزيارة رجعت إلى زنزانتي كئيبًا حزينًا.
ومرةً أخرى سمعت صوتَه الرهيف يعود إليَّ من جديد ويقول لي: "في العالم سيكون لكم ضيق لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يوحنا 33). عندها فاضتْ نفسي - وعلى الرغم من هذا الحرمان البغيض والضيق المرير - بالشكرِ والتسبيح لربي القدير. ورحت أسبّح وأعبد فاديَّ الذي أحبَّني أنا شخصيًا وأسلَم نفسه لأجلي. الذي مات عني بالصليب، وتحمَّل رفضَ البشر وقساوةَ قلوبهم ومرارةَ نفوسهم. فصلّيتُ بأنْ يمنحني حبَّه هو للأعداء، ويملأني بحنانه تجاهَ كلِّ الأردياء، ويغدِقُ عليّ من نعمته لحمل الأرزاء. نعم، اعتدت على الصلاة والتكلم إلى أبي الذي في السماء لأبثَّه شجوني وأحاسيسي. واعتدت في ظلمة الليل الرهيب أن أسمع صوت يسوع فادي يناجيني ويقول لي: ليس التلميذُ أفضل من المعلم ولا العبد أفضل من سيده.... فلا تخافوهم لأن ليس مكتوم لن يُستعلن ولا خفيّ لن يُعرف... ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها... (متى 10).
وشجَّعني الروحُ القدوس الساكن فيّ، أن أصمِّم تصميمًا جديدًا بأنْ أتبعَ السيد في خطاه ولو قادني ذلك حتى إلى الموت الذميم. ورحتُ أكتب أسماءَ إخوتي بالإيمان جميعًا على صفحة الجدار أمامي. وصرتُ أصلّي من أجل كلِّ واحد وواحدة منهم كيلا يعثروا أو يسقطوا بل يثبتوا في الإيمان إلى أن يبزغ الفجر ويطلع كوكب الصبح المنير. وبينما أنا أصلي بالروح إذا بحافظ السجن يأتي لينبئني بأنني قد أتممت أيامي وأنهيت مدة حكمي بالسجن، وأنه تم الإفراج عني. "هللويا"، قلتُ في داخلي، وهرعت بعد شهر كامل إلى بيتي لألتقي بعائلتي الصغيرة وعائلتي الكبيرة وعانقتهم ودموع الفرح تنزل مدرارًا على الوجوه.
نعم يا قارئي العزيز، هذه ليست بقصة خيالية جرتْ أحداثُها على المسرح، بل هي قصة حقيقية لشاب تألم وما زالت تحدث لكثيرين زُجُّوا في السجون ويُزَجّون حتى الآن من أجل إيمانهم بالمسيح المخلص الفريد. وعندما خرج "م" من السجن مؤخرًا صار يشجِّع أصدقاءه في الدرب لكي يحفظوا الكثير من الآيات المقدسة عن ظهر قلب لأنها حجتهم الأكيدة وتعزيتهم الوحيدة حين يُحجزُ عنهم كتابُهم المقدس، وحين يؤخذ منهم كل شيء.
والاضطهاد آتٍ ولا بدّ، لأنَّنا نعيش في خضمّ عالمٍ مشحونٍ بالرفض والاضطهاد لكثيرين، آمنوا وسوف يؤمنون، لصليبِ الفادي والمخلص المسيح الذي هو عند الهالكين جهالة بالحق، أما عندنا نحن المخلّصين فهو قوة الله للخلاص لكل من يؤمن.
م - شاب من الشرق الأوسط