Voice of Preaching the Gospel

vopg

تشرين الثاني November 2010

ليست هناك حدود ضيقة في معاملات الله مع الإنسان. فالله، جلّ جلاله، الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، نظر إلى هذا المخلوق العاقل نظرة تختلف كليًا عن سائر مخلوقاته، وأقام معه في إطارٍ تاريخيٍّ علاقات متعددة الوجوه ذات خصائص تثير الدهشة بل الحيرة في نفوس المتأملين بها. والأكثر من ذلك، فإن الله نفسه هو الذي قام بالمبادرة في نسج هذه العلاقة إدراكًا منه أن الإنسان وحده عاجز عن ابتداعها أو حتى التفكير فيها.

  وقد رأى الله أن هذه العلاقة التاريخية ضرورية جدًا في حياة الناس لِما يتميّز به الإنسان من خصائص توفّر له وعيًا حقيقيًا لصلة الله به. وليس من اليسير على هذا المخلوق أن يتبين مغزى هذه العلاقة ويدرك مراميها من غير إعلانات إلهية مباشرة أو غير مباشرة.
 
 ونودّ هنا أن نتأمل في هذه الإعلانات بصورة إجمالية لأنها حقًا مدعاة للشكر الدائم لأنها ثابتة، وحقيقية، وأزلية، بل قل سرمدية تتجلّى فيها أهداف الله ومقاصده. ولست أدّعي هنا أن الإنسان بعقله القاصر قادر على استيعاب كل هذه الغايات وما هي الحوافز التي دفعت الله، خالق السماوات والأرض أن يبدي هذا الاهتمام الغريب بمخلوقه. ولعلّ خير ما نلجأ إليه في هذا البحث هو أن نلقي نظرة على هذه العلاقة من ثلاثة وجوه.
 
 الوجه الروحي: عندما خلق الله ألإنسان خلقه لتكون له معه شركة روحية فيها تتجسد تلك العلاقة التي لا تعترضها الحواجز، بل تكون هناك علاقة مباشرة بين الخالق والمخلوق. فالخطيئة التي تفصل الإنسان عن الله وتشوّه هذه العلاقة لم تكن قد عكّرت صفو الصلة الإلهية الإنسانية، بل إن الله، فضلاً عن شركته مع الإنسان، سلّطه على جميع مخلوقاته من حيوان وطير وكائنات بحرية، وأقامه في جنة عدنٍ التي كادت تكون مماثلة في بهائها، وخصبها، وسلامها، وأمنها السماء لأن الله أراد لهذا المخلوق الذي أضفى عليه صورته ومثاله أن يكون سعيدًا وسيدًا، وليس عبدًا لأحد سوى الله. والحقيقة أن الله لم يعامل آدم كعبدٍ، بل اتخذ منه، إن جاز القول، صديقًا. فالعلاقة هنا كانت علاقة حميمة. وكان مطلب الله الوحيد من آدم هو الولاء الكامل لسيده وخالقه. ولا ريب أن الأجواء الفردوسية التي عاش فيها آدم وزوجته حواء، وتلك العلاقة الحميمة بينهما وبين الله كانت مدعاة للشكر العميق إذ لم يكن هناك موتٌ، ولا حزنٌ، ولا شقاء، وكلها ملفّعة بالبراءة التي لم تعرف كدرًا.
 
 ولكن يا للأسف، فإن الإنسان أقدم، بفعل إرادة محضة، أن يستسلم لرغبة أنانية تفوّقت على كل نوازع الخير التي فيه، فرغب أن يكون عارفًا بالخير والشر مناقضًا بل متمرّدًا بذلك على نواهي الله. ومن المؤلم حقًا أن هذه المبادرة صدرت عن الإنسان. وشتّان ما بين مبادرة الخالق في تكوين الإنسان، وبين مبادرة الإنسان في عصيان الله. ومع ذلك كله، وعلى الرغم من غضب الله على الإنسان، والتغيير الرهيب في العلاقة الروحية التي كانت بينه وبين مخلوقه، وفي طرد آدم وحواء من الفردوس، فإن الله قد تعهّد، بفضل محبته أن يعدّ لمخلوقه خطة للخلاص. وهذا الوعد هو مدعاة للشكر.
 
 الوجه الإنساني: أعلن المرنم أن الإنسان ضعيف وأن الله عالم بذلك لأننا جُبلنا من تراب. ولكن مع ذلك، فإن صورة الله التي فينا أضحت الرابط الروحي المستمرّ الذي يربط علاقتنا بالله. وقد غلبت محبة الله على غضبه وسخطه، وهيّأ فرصًا متاحة للإنسان لكي يدرك عظمته وقدرته. فالسماء تحدّث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه، وكل ما حول الإنسان يشير إلى وجود تلك القوة التي لا تدركها الأبصار التي تنظّم هذا الكون، ولكن هذا الإله الجبار والمحبّ لم يحرم الإنسان من خاصة الاختيار، مع العلم أن هذه الميزة التي هي أيضًا من صفات الله، جعلت المخلوق يتمرّد على الخالق وأسفرت عن نتائج لا ينقذنا منها إلا الله نفسه. ولكن الله الذي يحترم إرادة الإنسان - لأن هذا ينسجم مع عدله - لم يجرّده من هذه الميّزة، لأن عدل الله يقتضي حرية الاختيار. فالإنسان ليس كالبهائم خاضع لإرادة سواه - كحجارة الشطرنج - بل إنه قادر على العصيان، وقد ترك الله للإنسان حرية الإرادة ليأخذ المبادرة في الاختيار؛ ومن ثمّ يكون مسؤولاً عن مواقفه من الله. وكما أن حرية الاختيار هي مصدر خير، كما قد تكون مصدر شرّ فإنها أيضًا نعمة من الله لأنها تجسيد لما خصّ الله به الإنسان من امتياز عن بقية مخلوقاته. فالاختيار ليس فعل مواقف فقط، بل هو أيضًا حافز على الإبداع على جميع مستويات الحياة. والاختيار أيضًا يحدد علاقة الإنسان بالله. وهذا الاختيار هو اختيار واعٍ، شرًا كان أم خيرًا. وإن أخطأ الإنسان في اختياره فهناك مجال التي هي عطية الله للإنسان لكي يرتدّ عن سوء اختياره ويبدأ حياته الروحية من جديد؛ هذا إن شاء أن يتّخذ موقفًا جديدًا في علاقته مع الله.
 إن القدرة على الاختيار هي مدعاة للشكر أيضًا.
 
 والوجه التاريخي هو أن علاقة الإنسان بالله هي علاقة أبدية. فمع أن الإنسان عصى ربه وضلّ، وبالتالي ضلّ بقية الجنس البشري من بعده، فإن الله لم يقطع معاملاته معه، بل ظلّ للإنسان المكانة الأولى في معاملات الله معه؛ وعندما نتأمل في علاقة الله التاريخية مع الجنس البشري نرى إصبع الله في كل ما يجري من أحداث على وجه البسيطة. لقد تجسّد تأنّي الله على شرور البشر في خطط الإنقاذ التي أعدّها الله للإنسان، إن كان في بناء فلك نوح، أو في الإعلانات الإلهية التي أرسل بها الأنبياء، أو من خلال وحيه الإلهي الذي صرح به في كتابه المقدس، وأخيرًا عندما أرسل أعظم إعلان عرفته البشرية في شخص المسيح الذي أظهر الله فيه ذاته، فإنه في كل ذلك واصل الخالق صلته التاريخية بهذا المخلوق من فرط محبته له. وهذه الصلة لم تكن قاصرة، بل هي ليست قاصرة على الحقبة الزمنية الأرضية، بل هي امتداد مستمرّ منذ الخليقة إلى الأبد. صحيح إن كل حقبة تختلف في نوعيتها وخصائصها عن الحقبة الأخرى. فالحقبة الأولى حتى مجيء المسيح كانت حقبة العدالة والإعلان للتوبة والرحمة. وحقبة مجيء المسيح إلى يومنا هذا هي حقبة الفداء والمحبة والفرص المتاحة للرجوع إلى الله بصورة شاملة مجردة من القيود، لأن بمجيء المسيح تمّت جميع الفرائض، واكتمل الناموس، وتوافر الخلاص لكل من يؤمن بموته وفدائه وقيامته، لا يُستثنى من ذلك أحد. غير أن هذه الحقبة الأرضية لها نتائج مرتبطة باختيار الإنسان. ففي ذلك اليوم العظيم والمهوب عندما يقف كل إنسان أمام كرسي القضاء، وعندما يصدر المسيح أحكامه ودينونته، تنتهي هذه الحقبة التي تنطوي على المكافأة أو الجزاء، وتبدأ الحقبة التاريخية الأخيرة التي لا نهاية لها. إن هذه الحقبة تحمل في طياتها السعادة الأبدية أو العذاب الأبدي. وهذه مدعاة لشكر المؤمنين.
 
 الوجه الأبدي: إنه الوجه الذي يترقّبه المؤمنون بصبر نافذٍ تتّقد فيه الأشواق التي طال انتظار تحقيقها. فمنذ أن تأسست الكنيسة الأولى حتى هذه اللحظة التي أدوّن فيها هذا المقال، والقلوب تائقة إلى يوم مجيء الرب، لا للدينونة إنما لكي يملك على "ملكوت السماوات"، هذا الملكوت الذي دعا وبشّر به المسيح في الفترة التي عاش فيها على الأرض. وهو ملكوت أبدي لا يطرأ عليه تغيير ولا يعتريه ما يشوّهه أو يفسده. لن يكون كجنة عدنٍ خاضع لانسلال الخطيئة إليه، فكما يقول الكتاب المقدس: "وَلاَ تَكُونُ لَعْنَةٌ مَا فِي مَا بَعْدُ. وَعَرْشُ اللهِ وَالْخَرُوفِ يَكُونُ فِيهَا، وَعَبِيدُهُ يَخْدِمُونَهُ. وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَاسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ. وَلاَ يَكُونُ لَيْلٌ هُنَاكَ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى سِرَاجٍ أَوْ نُورِ شَمْسٍ، لأَنَّ الرَّبَّ الإِلهَ يُنِيرُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ سَيَمْلِكُونَ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ" (رؤيا 3:22-5).
 
 هذه العلاقة الأبدية هي عودة للبداءة الأولى التي أرادها الله أن يتمتّع بها آدم في جنة عدن. ولكن بعد أن دخلتها الخطيئة لم تعد صالحة لتكون تعبيرًا عن قداسة الله ومجده. غير أن هذه السماء الجديدة التي سيملك فيه المؤمنون هي التحقيق الإلهي لتلك العلاقة التي ابتدأت مع آدم، وأخذت هنا سماتها الأبدية مع الرب يسوع.
 
 ولكن ماذا يحدث لغير المؤمنين؟
 
إن علاقة الله بهم لم تنتهِ في الحقبة السابقة؛ بل ستستمرّ ولكن بصورة تدعو إلى الرهبة والرعب. فبدلاً من أن تصبح السماء، أي الفردوس الأبدي، موطنًا لهم، فإن هوة الجحيم التي أعدّها الله لهم وليس لهم وحدهم فقط بل "إِبْلِيسُ الَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ وَالْكِبْرِيتِ، حَيْثُ الْوَحْشُ وَالنَّبِيُّ الْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَارًا وَلَيْلاً إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ".
 
 إن عبارة "أبد الآبدين" هي هبة سعيدة للمؤمنين بالمسيح، وهي حكم قضاء رهيب للسالكين في الشر، الرافضين لفداء المسيح لأن "... الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ (أيضًا) فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ".
 
 إن وعد الله للمؤمنين بالملكوت الأبدي هو مدعاة لشكرهم الأبدي.
 
 يا قارئي، قل لي ما هو اختيارك؟!

المجموعة: 201011

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

115 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10474433