Voice of Preaching the Gospel

vopg

كانون الأول December 2010

إذ كانت الأفهام تحار ذاهلة في إدراك طبيعة الله وكُنه جوهره، فإن ما تعجز عنه الأذهان، وتندهش فيه العقول أكثر، هو ما تُعبِّر عنه كلمة الله التي تصف عدله المطلق الصارم وهو يقف جنبًا إلى جنب مع رحمته الواسعة. حيث تعلن لنا عن حكمته الأزلية، وكيف رتبت خلاص الإنسان الخاطئ من العقاب العادل بعمل الفداء العظيم الذي صنعه الله بنفسه في ملء الزمان، لكي تستطيع رحمته أن تجد مجالها في قضائه الحق، بما عرّفته الكلمة "بنعمة الله المخلّصة".
وفي هذا الخضم الهائل من المعاني الروحية التي تفوق التصوّر، نرجو أن يسعفنا روح الله القدوس لفهم وإدراك تلك الإعلانات الإلهية العظيمة، التي كشفها الله للبشرية بكل وضوح حين تأنّس في شخص المسيح، ليجسّد الحب المطلق لمخلوقاته البشرية، بعد أن رسفت في مهاوي الشر والفساد وتاهت في طرق الضلال، رغم الإعلانات النبوية السابقة، وترتيبات الناموس الطقسي. فلنتأمل فيها من خلال عبارات ثلاث هي: دعوى مسموعة، وحصانة منزوعة، وغرامة مدفوعة.

أولاً: دعوى مسموعة

بما أن سفر أيوب هو أول أسفار الكتاب المقدس "تاريخيًا"، حيث كُتب في زمن يقارب زمن الآباء الأولين، وهو يوضّح تلك الحقيقة العظيمة التي أعلنها الله بروحه من بداية تعاملاته التي وصلت إلينا أخبارها. فلنبدأ منه وبالأخصّ، حين ثقلت التجربة على أيوب "نبي الله الصابر"، وزادتها ضغطًا وقسوة اتهامات أصحابه الثلاثة الذي جاءوا - كما زعموا - لكي يعزّوه عن بلواه، ولكنهم كانوا كما وصفهم هو: "مُعَزُّونَ مُتْعِبُونَ كُلُّكُمْ"؛ لقد استذنبوا أيوب إذ وضعوه وجهًا لوجه أمام عدل الله الصارم، متخذين من التجربة وآثارها برهانًا ليؤكدوا أن الله قد سمح بأن تأتي عليه كل تلك الكوارث كدينونة له على خطايا عظيمة لا بد أن يكون قد اقترفها في الخفاء فسببت غضب الله عليه، وجعلته يسرع في إدانته وهو في الجسد، وقبل مجيء يوم الدين! لقد عابوا عليه شكواه وطلبوا منه الاعتراف بما لم يقترفه بحجة أن مقاييس الله لا يمكن أن تُدْرَك في علوّها، وهو في عظمته وسلطانه بعيدٌ عن الإنسان، ولا يهمه هلاك بني البشر: "فَكَمْ بِالْحَرِيِّ سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ، الَّذِينَ أَسَاسُهُمْ فِي التُّرَابِ..." (أيوب 19:4-20). كان مفهوم هؤلاء الروحي يتضمن النقاط التالية:

1- إن رضى الله يُبنى على الأعمال الصالحة للإنسان، وسخطه يُبنى على الممارسات الخاطئة.

2- إن الصحة، والغنى، والسلامة، والحماية، والأمان، والغلال، والذرية، وطول العمر هي دلائل للرضى الإلهي والعكس صحيح كمثال (أيوب 5).

3- الثواب والعقاب يتِمَّان على هذه الأرض وكل شيء ينتهي بالموت (أيوب 26:5).

4- لا مجال لوجود الرحمة في تطبيق عدل الله المطلق والإنسان يكفّر عن سيئاته بحسناته.

أما أيوب فإنه لم يعارض هذا الفكر ولو من حيث المبدأ مع بعض الاختلاف. هذا من جهة، ولكنه من جهة أخرى كان يؤمن بالكفارة والفداء، وكان يأمل ويشتاق إلى ذلك الوسيط والمُصالح كأنه كان ينظر بالإيمان إلى شخص المسيح الفادي قبل تجسّده بألوف السنين!! فهو الذي كان يقدم عن أبنائه الذبائح الدموية للتكفير عن أخطائهم؛ قبل أن يقع في التجربة.

وقد احتاج أصحابه الذين جرّموه أن يأخذوا سبعة ثيران وسبعة كباش ويذهبوا إلى أيوب لكي يصلي من أجلهم بعد إصعاد المحرقات فيرضى الله عنهم لا بسبب برّهم الذي ادّعوه بل بناء على دم الذبيحة التي كانت في طول العهود القديمة ترمز إلى ذبيحة المسيح. ولنتأمل في تقدّم الفكر الروحي لدى أيوب بالتتابع:

"فَأَجَابَ أَيُّوبُ وَقَالَ... فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ؟" (أيوب 1:9-3). ثم يقول: "إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْقَوِيِّ، يَقُولُ: هأَنَذَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ يَقُولُ: مَنْ يُحَاكِمُنِي؟ إِنْ تَبَرَّرْتُ يَحْكُمُ عَلَيَّ فَمِي، وَإِنْ كُنْتُ كَامِلاً يَسْتَذْنِبُنِي" (أيوب 19:9-20). ثم يقول: "أَنَا مُسْتَذْنَبٌ، فَلِمَاذَا أَتْعَبُ عَبَثًا؟" (أيوب 29:9-30). فهو يعترف:

1- أن مقاييس الله عالية جدًا لأنه كامل في قداسته.

2- لا يستطيع الإنسان أن يتجادل مع الله أو يحاكمه نظرًا لسلطانه العظيم.

3- لا يستطيع إنسان ما أن يتبرّر بذاته أمام الله.

لكننا نراه يتقدّم أكثر من ذلك ليفصح عن الرغبة المكتومة داخل صدره فيقول: "لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانًا مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ، فَنَأْتِي جَمِيعًا إِلَى الْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا" (أيوب 32:9-33). ويقول: "مَنَحْتَنِي حَيَاةً وَرَحْمَةً، وَحَفِظَتْ عِنَايَتُكَ رُوحِي. لكِنَّكَ كَتَمْتَ هذِهِ فِي قَلْبِكَ..." (أيوب 12:10-13). ثم يقول: "أَيْضًا الآنَ هُوَذَا فِي السَّمَاوَاتِ شَهِيدِي، وَشَاهِدِي فِي الأَعَالِي" (أيوب 19:16).

وقوله: "كُنْ ضَامِنِي عِنْدَ نَفْسِكَ" (أيوب 3:17) إلى أن يصل إلى القول: "أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ، وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ... إِلَى ذلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي" (أيوب 25:19-27).
فهذه الآيات تشرح أساسيات إيمان أيوب:

1- حاجته وترقبه لذلك الوسيط الذي يضع يده على الله وعلى الإنسان في آن معًا لكي لا ترهبه هيبة الله إذا تعامل معهم مباشرة ولا يثقل عليه جلاله (أيوب 35:9).

2- اعتماده على رحمة الله التي تحفظ روح المؤمن بكل عناية رغمًا من حالة جسده.

3- الشهيد من الأعالي والشاهد الذي يبرّر! وذلك يذكرنا بقول الرب يسوع عن نفسه: "هذَا يَقُولُهُ الآمِينُ، الشَّاهِدُ الأَمِينُ الصَّادِقُ، بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ اللهِ" (رؤيا 14:3).

4- كان يؤمن بذلك الضمان الإلهي الكامل بواسطة كفيل، كما كان الكفيل في زمن أيوب يصفق يدي الدائن والمدين لإعلان كفالته وضمان الدين.

5- يصل إلى الإعلان الصريح عن تبعيته لذلك الإله الحي، وانتظاره لذلك "الآخر" الذي سيقوم على الأرض. ثم يعلن أنه سيرى الله وجهًا لوجه في الأبدية بعد فناء الجسد الأرضي، فهل هنالك ما هو أوضح من ذلك؟!

ثم يأتي كلام "أليهو بن برخئيل البوزي" في نهايات هذا السفر الرائع ليؤكد تلك الحقائق النبوية الروحية بكل وضوح فيقول: "إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ (عند الله) مُرْسَلٌ، وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ اسْتِقَامَتَهُ، يَتَرَاَءَفُ (الله) عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ، قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً... يُصَلِّي إِلَى اللهِ فَيَرْضَى عَنْهُ، وَيُعَايِنُ وَجْهَهُ بِهُتَافٍ... يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: قَدْ أَخْطَأْتُ، وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ. فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ، فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ" (أيوب 23:33-28).

فإذا ما قرأنا العهد الجديد بتدقيق فإننا نرى بوضوح كيف تحققت هذه كلها حرفيًا، وبشكل مدهش في شخص الرب يسوع المسيح الذي تجسّد في ملء الزمان مولودًا من مريم العذراء وصائرًا في شبه الناس، لكي يكون في ذلك الجسد وسيطًا يصالح الإنسان المحكوم عليه بالموت، مع الله القدوس العادل، بموته كبديل لهذا الإنسان، وهو البار الذي يردّ على الإنسان برّه، كما يلي:

- هو الوسيط: "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (1تيموثاوس 5:2).

- إعلان بره: "الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ" (رومية 25:3).

- يتراءف الله: "هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ" (يعقوب 11:5).

- يطلق بني الموت: "لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ" (رومية 2:8).

- قد وجدت فدية: "وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُول، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيًّا" (عبرانيين 12:9).

- يرضى الله على صلاة الإنسان المفدي: "مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 1:12).

- يردّ على الإنسان برّه: "بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ" (رومية 22:3).

- السماح عن الخطية وإبطالها: "وَلكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ" (عبرانيين 26:9).

- يفدي الإنسان من الحفرة "هاوية العذاب" كما جاء في نبوة هوشع أيضًا: "مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ" (هوشع 14:13)؛ والتحقيق جاء في العهد الجديد "أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟" (1كو 55:15).

- الحياة الأبدية في نور حضور الرب: "وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْخَرُوفُ سِرَاجُهَا" (رؤيا 23:21).

هذه الإعلانات وغيرها قد وردت وترددت في أقوال القديسين ورجال الله "قبل تجسّد الكلمة"، وفي جميع العصور منذ وجود الإنسان على الأرض. حيث شاء الله أن يعلن بالروح القدس للكثيرين عن هذا الحدث العظيم "تجسد الله في شخص المسيح في ملء الزمان لأجل عمل الفداء المقرر في المشورات الأزلية". والذي جعله الروح القدس في قلوب الكثيرين بحيث يكون منتظَر وشهوة قلب كل المؤمنين، وقد أعلن الله في المسيح الفادي أنه سمع دعوى أيوب وغيره من أصحاب القلوب العطشى التواقة إلى خلاصه العظيم.


يتبع في العدد القادم

المجموعة: 201012

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

261 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10573294