شباط February 2011
"فَبَكَى يُوسُفُ حِينَ كَلَّمُوهُ" (تكوين 17:50).
أطلق الوحي المقدس على الأرض التي نعيش فيها "وادي البكاء"، لأن كل إنسان فيها يتعرّض لظروف صعبة، يذرف بسببها دموعًا سخية، لا فرق بين صغير وكبير، غنيٍّ وفقير، مثقّف أو أمّي، ويكفي أن أول ما يفعله الطفل بعد ولادته هو البكاء. وبعض الناس يبكون ليس في أحزانهم فقط بل في أفراحهم أيضًا. يرى الله دموع البشر كما يعلن لنا الوحي المقدس بلسان إشعياء النبي لحزقيا الملك: "رأيت دموعك"! لكنه لا يقف منها موقفًا واحدًا بل يقف منها أحد موقفين: إما أن يتجاهلها كما فعل مع عيسو إذ "لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَانًا، مَعَ أَنَّهُ طَلَبَهَا بِدُمُوعٍ"، أو أن يقدّرها كما فعل إزاء دموع المرأة الخاطئة التي بلّلت قدميه، فقال لها: "مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ... إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ، اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ".
واليوم أمامنا رجل من أعظم رجال العهد القديم، "يوسف" الذي دوّن عنه الكتاب أنه بكى سبع مرات - مررْتُ على الستة الأولى منها مرورًا سريعًا، ولكن السابعة أوقفتني أمامها طويلاً - يقول عنها الوحي المقدس: "وَلَمَّا رَأَى إِخْوَةُ يُوسُفَ أَنَّ أَبَاهُمْ قَدْ مَاتَ، قَالُوا: لَعَلَّ يُوسُفَ يَضْطَهِدُنَا وَيَرُدُّ عَلَيْنَا جَمِيعَ الشَّرِّ الَّذِي صَنَعْنَا بِهِ. فَأَوَصَوْا إِلَى يُوسُفَ قَائِلِينَ: أَبُوكَ أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ قَائِلاً: هكَذَا تَقُولُونَ لِيُوسُفَ: آهِ! اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ إِخْوَتِكَ وَخَطِيَّتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ صَنَعُوا بِكَ شَرًّا. فَالآنَ اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ عَبِيدِ إِلهِ أَبِيكَ. فَبَكَى يُوسُفُ حِينَ كَلَّمُوهُ". أزال يوسف كل المخاوف التي ملأت قلوبهم بقوله: "لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ اللهِ؟ أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا. فَالآنَ لاَ تَخَافُوا. أَنَا أَعُولُكُمْ وَأَوْلاَدَكُمْ. فَعَزَّاهُمْ وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ".
وسأتحدّث لحضراتكم في ثلاثة أمور:
أولاً: عيون دامعة
ثانيًا: تعليلات مقنعة
ثالثًا: وعود رائعة
أولاً: عيون دامعة
إن بكاء يوسف في الستة مرات الأولى كانت عادية لأنها كانت في ظروف من الطبيعي أن يبكي فيها الإنسان، ولكن ما الذي أبكاه هنا؟
1- ضياع وفقدان: لاحظ يوسف من كلام إخوته معه أنهم فقدوا ثقتهم فيه، وما أصعب أن يشعر الإنسان بأنه لم يعد موضع ثقة لأقرب المقربين إليه. كان يجب على إخوته أن يثقوا فيه ثقة قلبية لأنه لم يؤذهم، مع أنه كان يقدر أن يفعل ذلك. ثم عندما عرّفهم بنفسه ذكر أشياء مهمة كان يجب عليهم أن يفهموا مغزاها. "أَنَا يُوسُفُ أَخُوكُمُ الَّذِي بِعْتُمُوهُ إِلَى مِصْرَ. وَالآنَ لاَ تَتَأَسَّفُوا وَلاَ تَغْتَاظُوا لأَنَّكُمْ بِعْتُمُونِي إِلَى هُنَا، لأَنَّهُ لاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ. لأَنَّ لِلْجُوعِ فِي الأَرْضِ الآنَ سَنَتَيْنِ. وَخَمْسُ سِنِينَ أَيْضًا لاَ تَكُونُ فِيهَا فَلاَحَةٌ وَلاَ حَصَادٌ. فَقَدْ أَرْسَلَنِي اللهُ قُدَّامَكُمْ لِيَجْعَلَ لَكُمْ بَقِيَّةً فِي الأَرْضِ وَلِيَسْتَبْقِيَ لَكُمْ نَجَاةً عَظِيمَةً. فَالآنَ لَيْسَ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمُونِي إِلَى هُنَا بَلِ اللهُ".
بهذه الكلمات أعلن لهم بكل وضوح أنه ليس غاضبًا منهم وقد سامحهم من كل قلبه، فكان يجب أن يثقوا فيه ثقة كاملة.
2- جحود ونكران: لقد صنع بهم ومعهم أشياء كثيرة كان يجب عليهم أن يذكروها له. ففي أرض كنعان ذهب إليهم حاملاً الطعام والشراب والثياب، ولما لم يجدهم في مكانهم بحث عنهم متحمّلاً كل عناء البحث حتى وجدهم... وأيضًا في أرض مصر، أعطاهم القمح مجانًا بردّ فضة كل واحد في عدله، وأعطاهم زادًا للطريق عند عودتهم إلى كنعان مرتين... ألم يأمر أن يُذبح لهم ذبيحة ليأكلوا؟ ألم يوفّر لهم الإقامة المريحة في أرض مصر عندما تركوا كنعان؟ ألم يعولهم جميعًا في سني الجوع وهم في أرض كنعان ومصر؟ وما أصعب أن يشعر الإنسان بأن جمائله تُقابل بالجحود والنكران!
3- كذب وبهتان: منذ الوهلة الأولى التي بدأ فيها إخوته في الحديث معه اكتشف كذبهم البيّن والواضح، "أَبُوكَ أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ قَائِلاً: هكَذَا تَقُولُونَ لِيُوسُفَ: آهِ! اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ إِخْوَتِكَ وَخَطِيَّتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ صَنَعُوا بِكَ شَرًّا".
هل تصدق أيها القارئ العزيز أن إخوة يوسف تحدّثوا مع أبيهم في أمر يوسف؟ إنني شخصيًا لا أصدّق ذلك لأنهم لم يُردوا أن يذكّروا أباهم بما فعلوه مع يوسف ومعه خجلاً وتجنبًا لغضب أبيهم وتعنيفه وتوبيخه الشديدين لهم.
يبدو أنهم تعوّدوا على الكذب. لما تأخر يوسف عن العودة إلى بيت أبيه، لا شك أن يعقوب سأل أبناءه: أين يوسف أخوكم؟ لا شك أنهم أجابوه: لم نره! بل وتساءلوا: هل أرسلته إلينا؟ إنه لم يصل إلى المكان الذي كنا نرعى فيه. وأضافوا، ونحن في طريق عودتنا، وجدنا هذا القميص الملطّخ بالدم، "حَقِّقْ أَقَمِيصُ ابْنِكَ هُوَ أَمْ لاَ؟ فَتَحَقَّقَهُ وَقَالَ: قَمِيصُ ابْنِي! وَحْشٌ رَدِيءٌ أَكَلَهُ، افْتُرِسَ يُوسُفُ افْتِرَاسًا". ألا يعلمون أن الكذب يجرّ الويلات على مرتكبيه؟ كذب جيحزي فلحق به وبنسله برص نعمان السرياني. وكذب حنانيا وكذبت زوجته فماتا هالكين. لا أنسى بيتًا شعريًا كان يردده والدي أمامنا فيها: "الصدق في أقوالنا أقوى لنا، والكذب في أفعالنا أفعى لنا".
ثانيًا: تعليلات مقنّعة
ذكر يوسف في ردّه على حديث إخوته معه شيئين:
1- سؤال حكيم: "هل أنا مكان الله؟". يتساءل البعض: ماذا كان يقصد يوسف بهذا السؤال؟ بحسب فكري، إن يوسف قصد بذلك أنه لن يعاقبهم هو، بل ترك ذلك للرب لأنهم ارتكبوا خطيتهم ليس ضدّ يوسف ويعقوب فقط بل ضدّ الله! ونلاحظ أن يوسف عندما كان في بيت فوطيفار وطلبت منه زوجة سيده أن يفعل معها الشر قال: "فَكَيْفَ أَصْنَعُ هذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟" بينما المسلّم به بين الناس أن فعل الشر مع زوجة فوطيفار هو شر ضدّ زوجها فقط!
لقد اتّبع يوسف بقوله "هل أنا مكان الله؟" المبدأ التالي: أنه إذا عمل هو شيئًا فسيسكت الله، وإذا سكت هو فسيعمل الله، إذًا سيصمت هو لكي يعمل الله. ما أكثر الذين يضعون أنفسهم مكان الله ويحاولون الانتقام لأنفسهم بينما يقول الوحي في رومية 17:12-19 "لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ. مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ النَّاسِ. إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ. لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ"!
2- توضيح عظيم: رأى يوسف على وجوه إخوته الخوف والارتباك، فقال لهم: "لا تخافوا". ولكي لا يترك لمخاوفهم مجالاً للظهور رددها ثانية. ربما عندما نطق بها للمرة الأولى قالوا: وما الذي يضمن لنا عدم الخوف؟ ولكن بترديدها تبددت مخاوفهم وملأت الطمأنينة قلوبهم. ثم أضاف يوسف قائلاً: "أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا". وذكرها يوسف هنا مع أنه قالها لهم عندما عرّفهم بنفسه "أَنَا يُوسُفُ أَخُوكُمُ الَّذِي بِعْتُمُوهُ إِلَى مِصْرَ. وَالآنَ لاَ تَتَأَسَّفُوا وَلاَ تَغْتَاظُوا لأَنَّكُمْ بِعْتُمُونِي إِلَى هُنَا، لأَنَّهُ لاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ... فَالآنَ لَيْسَ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمُونِي إِلَى هُنَا بَلِ اللهُ". بذلك أفهمهم أن كل ما يُعمل هو للخير. بهذه الأقوال أقنعهم تمامًا بأن مجيئه إلى مصر تمّ بترتيب إلهي، وخطة دقيقة منه.
ثالثًا: وعود رائعة
1- هذه الوعود سبقها طمأنينة حقيقية: لا تخافوا، هذه طمأنينة حقيقية ليست كالطمأنينة التي قدمتها ياعيل لسيسرا "مِلْ يَا سَيِّدِي، مِلْ إِلَيَّ. لاَ تَخَفْ. فَمَالَ إِلَيْهَا إِلَى الْخَيْمَةِ وَغَطَّتْهُ بِاللِّحَافِ. فَقَالَ لَهَا: اسْقِينِي قَلِيلَ مَاءٍ لأَنِّي قَدْ عَطِشْتُ. فَفَتَحَتْ وَطَبَ اللَّبَنِ وَأَسْقَتْهُ... فَأَخَذَتْ يَاعِيلُ امْرَأَةُ حَابِرَ وَتَدَ الْخَيْمَةِ وَجَعَلَتِ الْمِيتَدَةَ فِي يَدِهَا، وَقَارَتْ إِلَيْهِ وَضَرَبَتِ الْوَتَدَ فِي صُدْغِهِ فَنَفَذَ إِلَى الأَرْضِ، وَهُوَ مُتَثَقِّلٌ فِي النَّوْمِ وَمُتْعَبٌ، فَمَاتَ" (قضاة 18:4-21).
2- وعود غنية: لم يكتفِ يوسف بإزالة مخاوفهم فقط بل قدم لهم وعودًا بالرعاية الخاصة والعامة "أنا أعولكم وأولادكم". وهذا الوعد يشمل الإعالة الغذائية؛ يطعمهم ويطعم أولادهم... وأيضًا الإعالة الكسائية؛ سيستر أجسادهم بأفخر الملبوسات... والإعالة الصحية؛ سوف يوفر لهم الدواء مهما كلفه من مال. وبالاجماع إنها إعالة تامة شاملة؛ كل هذا مجانًا وبدون مقابل.
3- تعزيات قلبية: يقول الكتاب، بعد انتهاء يوسف من كلامه، عبارة في منتهى الروعة: "فعزاهم وطيّب قلوبهم". لقد خرجوا من أمامه على خلاف تام بما جاؤوا عليه قبل وأثناء لقائه... تبددت أحزانهم وحلت الأفراح الحقيقية والكاملة، وذهبت مخاوفهم تمامًا وحلّ مكانها الأمان الكامل.
أحبائي، أليس هذا ما يفعله الله معنا وأكثر... نحن أخطأنا في حقه، وصرخنا في وجهه: "ابعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسرّ". وحتى قبل أن نعترف له، يعولنا ويهتم بكل أمور حياتنا، وقد فعل بنا أعظم الأمور عندما أتينا معترفين بخطايانا، فتمتّعنا بالغفران الكامل، والرعاية الخصوصية، وملأت التعزيات قلوبنا فهتفنا قائلين: "عند كثرة همومي في داخلي تعزياتك [تعزيات الرب] تلذّذ نفسي"، "الرب راعيّ فلا يعوزني شيء".