أذار March 2011
أشار الشاعر البريطاني الكبير في ملحمته الرائعة "الفردوس المفقود والفردوس المستردّ" إلى حكاية الموت والخلاص، أو إن شئت إلى درب الانفصال عن الله ومن ثمّ طريق اللقاء واكتشاف جنة عدن من جديد.
وهذه الملحمة مستوحاة من قصة السقوط، والعصيان، ودخول الخطيئة إلى العالم لأن في جنة الجنان التي خلقها الله لتكون مقرًّا أبديًا لأبوينا الأولين تمّ ارتكاب خطيئة السقوط التي بدّلت وجه التاريخ البشري في علاقته مع الله؛ فالإنسان الذي عني الله بخلقه بمهارة، وجعله خليفته على الأرض، أغفل الوصية الأولى والوحيدة التي أمره بها الرب الإله، بفعل اغتراره، وطمعه، وعصيانه. كانت الجنة ملكًا خالصًا لآدم وحواء باستثناء شجرة معرفة الخير والشر التي غرسها الله في وسطها.
كانت هذه الشجرة هي محكّ الامتحان والطاعة. نحن لا نعرف ماهية هذه الشجرة ولا أوصافها، ولكننا نعلم أنها شجرة معرفة الخير والشر، وأن أثمارها كانت شهية للنظر، بهجة للعيون، وجيدة للأكل. وعلى الرغم من نهي الله وتحذيره لآدم وحواء من النتائج الوخيمة المترتّبة على العصيان، فإن النوازع الداخلية، والفضول، والطمع، بل الطموح لاكتشاف ما هو مجهول جعلاهما يغفلان الوصية الإلهية ويقترفان خطيئة التعدّي على الحق الإلهي.
كان هذا البستان هو أحد البستانين اللذين ورد ذكرهما في الكتاب المقدس واللذين لعبا دورًا خطيرًا في قصة السقوط والخلاص. فالبستان الأول هو بستان الموت والشقاء، أما الآخر فهو بستان الحياة والبقاء. والمدهش حقًّا أن البستان الأول جاء ذكره في العهد القديم ليسجّل لنا الوحي الإلهي في بدء التكوين طبيعة العلاقة بين الإنسان والله؛ أما البستان الآخر فقد أشار إليه العهد الجديد ليدوّن لنا علاقة الله بالإنسان.
بستان الموت والشقاء
كانت جنة عدن هي الجنة الوحيدة التي خلقها الله على الأرض. وعندما نمعن النظر في أوصاف الجنة والغرض من وجودها، نرى أنها كانت جنة مثالية تتوافر فيها كل مباهج الحياة وتهيمن عليها البراءة الأولى لأن الله لا يخلق شيئًا ناقصًا. ورد في سفر التكوين هذه العبارة التي تكررت في سياق عملية الخلق: "ورأى الله ذلك أنه حسن". لقد استهدف الله أن يخلق على الأرض جنة تتميّز بالطهارة والنقاء، ونظّم الحياة فيها، ووضع لها شرائعها. لم يكن ينقصها إلا من يعتني بها ويحافظ عليها. والواقع أن الله قد أبدع هذه الجنة لتكون مأوى لمخلوقَيه الأولين، وليس المخلوقين من أجل الجنة. فالإنسان وحده خُلق على صورة الله ومثاله. وهذه الصورة هي خاصة إلهية أنعم بها الرب الخالق على الإنسان وحده دون سائر خلائقه، وجعله سيدًا على الجنة بكل ما فيها من نبات، وشجر، وحيوان، وطير، وسمك البحر، وزواحف، ودبابات؛ بمعنى آخر كان آدم هو نائب الله على الأرض يشرف على الجنة، ويتسلط على كل ما فيها.
ولكن السؤال الخطير الذي يجابهنا: ما الذي دعا آدم وحواء إلى التعدي على أوامر الله ونواهيه؟ وهل كانت شجرة معرفة الخير والشر أهم من الحياة ذاتها؟ إن الله لم يُخفِ عنهما عواقب التمرّد على وصاياه إذ قال لهما: "لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت". أي أن الإنسان يفقد صفة الخلود ويقع الانفصال بينه وبين الله. صحيح أن هذا النهي كان في بادئ الأمر موجّهًا لآدم، ولكن لدى ظهور حواء على مسرح التاريخ فإنها أصبحت خاضعة أيضًا لحكم شريعة الله، لأنه كما خلق الله آدم على صورته ومثاله كذلك خلق حواء إذ يقول الكتاب المقدس: "ذكرًا وأنثى خلقهم وباركهم الله...". إن صيغة الجمع في لفظتي "خلقهم وباركهم" هي رمز لخضوع الجنس البشري قاطبة للنواميس الإلهية، فآدم وحواء كانا يمثلان في علاقتهما مع الله الإنسانية جمعاء في جميع عصورها وأجيالها. لقد وضع الله على عاتق أبوينا الأولين مسؤولية كبرى، وهي مسؤولية أخفقا في حملها على الرغم من وجودهما في جنة الله الطاهرة. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الإنسان في مواقفه ونوازعه وانحرافاته ليس خاضعًا لتأثير الأجواء التي نشأ فيها؛ فآدم وحواء كانا يرفلان في نعيم إلهي لم يحظ به أحد سواهما. ومع كل ذلك فإن هذه الجنة المباركة لم تمنع آدم وشريكته من التطاول على نواهي الله وكسرها، بل انساقا وراء غواية الشيطان.
إننا نخطئ عندما نظن أن البيئة التي ننشأ فيها كافية لكي تقينا من الضلال، لأنها في الواقع هي ذاتها خاضعة لطبيعة الإنسان الساقطة، وهذا ما حدث مع آدم وحواء فإن الجنة التي سعى الله أن توفر للإنسان الحياة الرغيدة قد تحوّلت إلى جنة موت بعد العصيان.
وقد يتساءل القارئ: كيف يمكن للإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله أن يسقط في خطيئة العصيان التي استوجب عليها الموت؟ ألم يخلقه الله ليكون خالدًا وليس عرضة للفناء؟ والجواب نراه في حقيقة حرية الاختيار. فالله لم يخلق الإنسان ليكون حجر شطرنج مجرّدًا من الفكر والإرادة. هذا لا يتفق مع عدالة الله، لأن عدالة الله تقوم على قانون الثواب والعقاب.
لقد اختار الإنسان في جنة عدن طريق الموت على الحياة؛ وبالتالي طُرد من الجنة أو البستان الإلهي وأغلق الباب فعجز عن العثور عليه أو الدخول إليه. هذه هي الجنة الضائعة التي يكافح الإنسان للرجوع إليها.
بستان الحياة واللقاء
يحدثنا العهد الجديد عن بستان آخر يختلف عن بستان عدن هو بستان الآلام والأوجاع. وهو بستان أرضي من صنع الناس ويدعوه إنجيل متى ومرقس بستان "جثسيماني". وهو يقع في سفوح جبل الزيتون. ويعتقد البعض أن جبل الزيتون هذا كان يدعى في العهد القديم بجبل المريّا حيث عزم إبراهيم أن يقدّم ابنه إسحاق ذبيحة لله.
في تلك الليلة الرهيبة التاريخية التي أُسلم فيها المسيح، مضى مع تلاميذه إلى بستان جثسيماني، وهناك بعد أن انتحى بعيدًا عن تلاميذه، خرّ على الأرض وأخذ يصلّي بحرارة بصفته ابن الإنسان، طالبًا من الآب السماوي لكي تعبر عنه تلك الساعة أو الكأس. لم يكن المسيح آنئذ خائفًا من الآلام البشرية، ولكن آلام المسيح وأحزانه كانت نابعة من الفكرة المخيفة التي فيها سيحمل خطايا البشرية جمعاء، ويتعرّض لدينونة الله. كانت هذه اللحظة هي لحظة حاسمة في حياة المسيح. ولكن المسيح قد جاء إلى هذا العالم لهذا الغرض نفسه. عندما شاهده يوحنا المعمدان من بعيد صرخ: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!" (يوحنا 29:1). كان المسيح على بيّنة مما سيحدث له، وقد أسرّ ببعض أفكاره في تلك الليلة إلى تلاميذه لأنه أدرك أن ساعته قد اقتربت. كان لا بدّ للمسيح أن يتوّج حياته بالموت على الصليب، لأن طريق بستان الآلام هذا كان هو السبيل الوحيد لاسترداد البستان المفقود. إن قضية الموت على الصليب لم تكن وليدة اللحظة، بل هي خطة إلهية رُسمت منذ الأزل من أجل خلاص الجنس البشري واسترداد الجنة المفقودة التي لا يمكن أن تتدنّس بالخطيئة فيما بعد.
كان بين البستانين أكوام من الآثام والخطايا التي ارتكبها الإنسان، ولكي يصل المسيح إلى الصليب كان لا بدّ أن يخترق ركام هذه الخطايا ويحملها على كتفيه كما حمل إسحاق الحطب ومضى بصمت إلى المذبح الذي بناه أبوه على جبل المريّا. يتعذّر على المرء أن يتصوّر قصة الصراع الداخلي الذي قاسى منه ابن الإنسان، فإن كان آدم قد عوقب من أجل عصيانه وتمرّده على نواهي الله، فإن المسيح المتجسد قد جاء طوعًا ليعاقَب على خطيئة بل خطايا الإنسان التي لم يقترفها. فالبريء، كما يقول الكتاب قد صار خطيئة من أجلنا.
إن الفارق بين قصة آدم وقصة المسيح هو فارق كبير. فآدم طرد من جنة الله إلى عالم الشقاء والموت، أما المسيح فقد سار في طريق الجلجثة، والعذاب، والذلّ، والإهانة لكي يؤمِّن للإنسان الساقط حياة أبدية. إن الصليب هو عملية فداء جذرية انفتح فيها باب الجنة المفقودة إلى الأبد لكي يدخل منه كل من يؤمن بالمسيح. فاسترداد الفردوس المفقود كلّف، في لحظة الدينونة، هنيهات فراق بين الآب والابن لأن الآب تعذّر عليه أن يشهد كل خطايا الإنسانية - منذ آدم حتى آخر إنسان يولد على هذه الأرض - تتكوّم على كتفي ابنه ويدفع ثمنها مضحيًا بكل شيء لكي يسترد الإنسان المؤمن صورة الله التي شوّهها بخطاياه. وكما سقط آدم باختياره الشخصي في خطيئة العصيان، فإن المسيح قد تحمّل العقاب باختياره الشخصي. بل أكثر من ذلك، فإن المسيح بموته على الصليب قد اختار لنا الحياة لأنه بموته وقيامته قد قهر الموت وانتصر على الفناء. فإن كان آدم الأول سببًا لدخول الخطيئة والموت إلى العالم، فالمسيح الذي بدأ رحلته إلى الصليب في بستان جثسيماني والتي انتهت بالقيامة الظافرة، حقق أكبر عملية إنقاذ في التاريخ.
إن بستان جثسيماني هو درب آلام لا بدّ منه عبّر فيه الله عن فائق محبته للإنسان المحكوم عليه بالدينونة الأبدية.
فأين تقف أنت من مثل هذه التضحية التي لا مثيل لها؟
هي تضحية خلاص وحياة وانتصار على الموت. فهل تقدّر قيمتها؟