أيار May 2011
صورة قاتمة قاتمة... لا بل مخيفة ورهيبة تلك التي ينقلها إلينا التلفاز. صور العالم الحائر والخائر أمام قوى الطبيعة العاصفة والثائرة والهائجة. وبالأخص تلك التي تخصُّ جزر اليابان التي تعرَّضت لاهتزاز كبير في طبقات الأرض في قلب المحيط الباسيفيك (الهادئ) بعيدًا عن شواطئ اليابان ببضعة أميال. لكنَّ الخراب والدمار اللَّذيْن خلَّفهما هذا الزلزالُ العنيف البالغ على مقياس ريختر 9،0 قد فاقَ كل تقدير وتوقع. ويُعدُّ الآن رابع أكبر زلزال في العالم، منذ العام 1900، ويأتي ترتيبه بعد زلزال سومطرة الذي بلغ 9،1.
وقوة زلزال اليابان أنتجت (تسونامي) مدَّا بحريًا كبيرًا، بحيثُ أنَّ مياه المحيط ارتفعت بشكل أمواج طولها أكثر من عشرة أمتار وزحفت إلى الشاطئ جارفةً في طريقها كل شيء من حقول، ومزارع، وبيوت، وبنايات، وسيارات، وبشر حتى عمق ستين كيلومترًا من الساحل.
تلك الصور القاتمة تحزُّ في النفس، وتعتصرُ القلب، ويشعر مَنْ يراقبها بضيقٍ شديد، فتبكي العينُ حسرةً على ما شاهدتْ، ويعتصر القلب ألمًا على الخسائر البشرية التي لا يمكن أن تُعوّض. ولا تزال عمليات البحث عن الجثث قائمة على قدمٍ وساق حتى الآن في قلب الأنقاض، وبين حطام البيوت المنهارة على الرغم من انتشال الكثير منها حتى وصل إلى الآلاف وهو لا يزال في تصاعُدٍ مستمر. بعضُها طفا على سطح المياه البحرية الجارفة، وبعضُها الآخر سُحِب من بين الرَّدم في جوف الأرض، من بين الرمل والطين، ومن داخل السيارات أيضًا. وغدت المدافن والمحارقُ (الأفران) تعجُّ بالجثث حتى إنها لم تعد تستوعب العدد الضخم من الموتى. وبدت إدارة المدافن في حيرةٍ من أمرها بسبب النقص الكبير في الأكفان والأكياس التي تغلَّفُ فيها الجثث. فصارت تطلب المعونة من مدن أخرى في اليابان لكي تشترك معها هي الأخرى في حرق الجثث في محارقَ مخصَّصة.
هذا من ناحية الخسائر البشرية التي لا تزالُ ترتفع في كل يوم. أما الخسائر المادية فهي لا يمكن أن تقدَّر بأرقام لأنها فاقت عشرات لا بل مئات البلايين من الدولارات. وليس هذا فحسب، بل إنَّ أسواق المال اليابانية قد انخفضت قيمة الأسهم فيها إلى درجةٍ فادحة ممَّا اضطرَّ البنك المركزي الياباني إلى وضع مئةٍ وأربعة وثمانين بليون دولار لتشغيل الأسواق وإنقاذها من الانهيار. أما المفاعلات النووية فقد خسرت طاقتها بفعل الزلزال ممَّا أثر على عملية التبريد فيها. وبالتالي تعرضت لارتفاع كبير في درجة الحرارة، مما أدى إلى انفجارات داخلها دفعت بالإشعاع النووي إلى الانطلاق في الجو وتلويث مساحة كبيرة من الأميال حولها. فاندفع الناس إلى ترك المساكن المحيطة والهروب إلى مدن أبعد لم يبلغها الإشعاع بعد.
ونرى الإنسان في قلب كل هذه المشاهد يحاول جاهدًا أن ينقذَ نفسه من المأزق الذي هو فيه. لكنَّه سرعانَ ما يغوصُ في خضمٍّ أكبر ويمٍّ أوسع منه مترقِّبًا ابتلاعَهُ في أمواجه الثائرة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل نحن محصَّنون ضدَّ الهزات الأرضية؟ بالطبع كلا. فلا أحدَ منا محصَّنٌ ضدَّ ثوران الأرض وانزلاق الطبقات في باطنها، إلا إذا كانت لديه القدرة الخارقة على السيطرة على الاهتزازات، والارتجافات والنشاطات الزلزالية وهيجان الأرض وتحركاتها العنيفة. بالطبع، ليس هناك واحد منا على وجه هذه البسيطة من يستطيع أن يقول إنَّ لديه مناعة حصينة ضد أية هزة أو زلزال يطيحُ به جسديًا أو فكريًا أو نفسيًا أو روحيًا. لأنَّ العاصفة حينما تأتي، فإنها لا بدَّ أن تترك وراءها الخراب والدمار إلى أبعد ما يمكن أن يتصوّرَه العقل أو يتنبأ به العلم، ليس في الممتلكات والأراضي فقط، بل في ما يتركه من بصمات في حنايا الإنسان الداخلية من نفسٍ وروح وجسد.
فماذا نحتاج إذن ونحنُ نعيش في خضمِّ عالمٍ متغيّر، متقلقل، وحائر؟ في وسط ظروفٍ متقلِّبة، وأخرى مفاجئة؟ إن كنا نستطيع أن نجهِّز أنفسنا تجهيزًا سابقًا لكل كوارث ومآسي الحياة، فهذا عظيم. لكنَّ الحياة لا تسير وفق هذا المسار دائمًا. أما الذي نحتاجه في عالمٍ متغير فهو الاستقرارُ والاطمئنان والهدوء والصفاء على الرغم من كل ما يحيط بنا. نحتاج حاجةً ماسة إلى السكون ونحنُ في العاصفة، إلى السلام ونحن في المعمعة، إلى الراحة وسط التعب والقهر، نحتاج إلى أن نتمسك بالثابت في عالمٍ متحوِّل ومتقلّب. فأين نحن من ذلك يا ترى؟
قال مرة النبي إشعياء هذه الكلمات المعزية وبوحي من الروح القدس: "يا رب تراءف علينا، إياَّكَ انتظرنا. كن عََضِِدََهم في الغدوات، خلاصََنا أيضًا في وقت الشدة... فيكون أمانُ أوقاتك وِفْرةََ خلاصٍ وحكمةٍ ومعرفة. مخافةُ الرب هي كنزُه" (إشعياء 2:33 و6). إذن مفتاح الكلام في هذه الآيات المقدسة هو الرب نفسه، الحصن المنيع والملجأ الأمين في كل الأزمنة والأوقات. لقد خصَّص الربُّ يسوع المسيح، وهو الابن المتجسد، يومَ كان على أرضنا ومشى بيننا وعاش معنا، خصَّص وقتًا أو خلوة يومية يلتقي فيها مع الله الآب. فماذا ترانا نتعلم من الرب يسوع المسيح الذي قال للجمع مرة: "... تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب"؟! والسؤال هو: هل حضور الرب واضح في حياتك يا قارئي؟
هل حضرته الإلهية هي معك في كل يوم وساعة ولحظة؟ هل تختلي معه في لقاء منتظم كما فعل الرب يسوع ؟
كتبت إحداهن مرة تقول: "في لحظاتٍ روحية صلى الرب يسوع المسيح بعد أن اعتمد من يوحنا المعمدان في نهر الأردن. وبعد أن صلى انفتحت السماء ونزل الروح القدس عليه بهيأة حمامة واستقرّ عليه (لوقا 3:21-22). وعند اتخاذه قرارات حاسمة ذهب الرب يسوع إلى الجبل ليصلي. وهناك استشار الله الآب قبل أن يختار تلاميذه الاثني عشر (لوقا 6:12-16). وبعد أن انتهى من إشباع الخمسة آلاف، يخبرنا البشير مرقس بأن يسوع المسيح اختلى إلى نفسه. فألزم التلاميذ أن يدخلوا إلى داخل السفينة ويسبقوه إلى العبر. ومضى هو إلى الجبل ليصلي (مرقس 40:6-41). وعندما سمع الرب يسوع الخبر المحزن عن مقتل يوحنا المعمدان، انصرف إلى موضع خلاء منفردًا (متى 13:14). وعند الشركة وتقديم الشكر في العشاء الأخير مع التلاميذ أخذ يسوع الخبز وبارك وكسّر وأعطاهم (متى 26:26). ومن أجل الآخرين علّم الرب يسوع تلاميذه كيف يصلّون وأخذ وقتًا لنفسه ليصلي من أجل نفسه والتلاميذ وكل من سيصبح من أتباعه المؤمنين فيما بعد (يوحنا 16 و17). وهو يسير على درب الجلجثة الصعب والمرير متجهًا نحو الصليب، جثا على ركبتيه وصلى قائلاً: يا أبتاه إن شئتَ أن تجيزَ عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك... نعم، صلى بلجاجة وسلَّم إلى مشيئة الآب حتى ولو كان ذلك يعني الألم والعذاب والانسحاق المرير (لوقا 39:22-45).
إذن، ونحن في هذا العالم المتغيّر والمتقلّب، لا شيء هناك باقٍ كما هو سوى خالقِه العجيب "الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران". فهل أنت على علاقة مستديمة معه تعالى؟ هل تشعر بحضوره في حياتك؟ ليس في وقت الشدة والألم والمرض فحسب؟ بل أيضا عند البحبوحة، ووقت الفرح، والسعادة. هل تشعر به إلى جانبك، يسير معك، يمسك بيمينك، تمامًا كما قال المرنم: نمشي معًا، نحكي معًا كالخلِّ للخليل؟ هذه هي الحضرة الإلهية المطلوبة في حياتنا. لأنَّنا بدونها لن نشعر بالاستقرار والأمان ولن نتحمّل تجارب الحياة وتقلّباتها السريعة، ولن نحظى بالاطمئنان والسلام الذي يفوق كل عقل. فهل نكفُّ ونعلم من هو الله بالنسبة لنا؟ تمامًا كما قال صاحب المزامير بالروح القدس: "كفوا واعلموا أني أنا الله. أتعالى بين الأمم أتعالى في الأرض" (مزمور 46)؟ عندها نقدر أن نضمَّ صوتنا إلى صوت الكثيرين ونقول:
الله لنا ملجأ وقوة عونًا في الضيقات وُجد شديدًا. لذلك لا نخشى ولو تزحزحتِ الأرض ولو انقلبتِ الجبال إلى قلبِ البحار، تعجُّ وتجيشُ مياهُها، تتزعزع الجبال بطموِّها... رب الجنود معنا. ملجأنا إله يعقوب". هذا الملجأ الصلب الذي لا تؤثر فيه الزلازل ولا صعوبات الحياة ولا تقلباتها المفاجئة. فهل اختبرت عظمته، وقوته، وجبروته، ومحبته الأبدية، ونعمته المتفاضلة في حياتك الشخصية يا قارئي؟ هل اختبرت حضرته الإلهية يوميًا وتمتّعت بالعِشرة معه في كل آن؟