أيار May 2011
نأمل أن يهدأ ويتلاشى دخان ما يحدث حاليًا في دول شرقنا الأوسط العزيزة وشعوبها الكرام.
لقد اكتوت هذه الشعوب بما فيه الكفاية. ونحن هنا، إذ نُذكِّر بهذا، لا نعبر عن موقف سياسي إنما نقول ما نقوله بدوافع الحسّ الإنساني نحو شعوبٍ جريحةٍ نزف منها الكثير من الدماء وهي اليوم تحاول أن تضمد جراحاتها. إنها تستحق منا جميعًا التعاطف، والعون، ولمِّ الشمل بين طوائفها المتنوعة التي نأمل أن تكون مثالاً يُحتذى للتعدّدية المنصهرة في مجتمع واحدٍ متحابب.
سأل أحدهم: كيف تتوقعون ما تُخلّفه أجواء الحروب في نفوس الشعوب التي اكتوت بنيرانها؟
فقلنا: بعد أن تنتهي الحروب، تُخلّف وراءها ردود فعل متضاربة ولا شك. فلدى البعض، قد يسود الإحساس الدائم بالخوف نتيجة رواسب الماضي. ولدى البعض الآخر قد يستولي الشعور بالغضب والحقد المشحون بدوافع الانتقام. بينما البعض الآخر، لفرط ما شاهده من أهوال تصبح الحياة في عينيه تافهة لا قيمة لها ويصاب بالإحباط؛ وهذا يعبر عن دمارٍ للنفس وقتلٍ للقيم التي زرعها الله في الإنسان، لكي يحيا بها متجاوزًا المحن التي تواجهه مهما اشتدت وتكالبت عليه.
ولكن هناك فئة أخرى من الناس تختلف تمامًا عن هذه أو تلك، فهؤلاء لا يفقدون الأمل حتى في أشد المحن والخطوب، ومهما تعمقت الجراح وازدادت المآسي.
كنت أتأمل في فصل من كلمة الله في الكتاب المقدس، فوقع نظري على مشهد وجدت فيه عيّنة تمثل هذه النوعية الأخيرة التي أشرت إليها. فقراءتي كانت في سفر حبقوق؛ وهذا سفرٌ صغير من أسفار الكتاب المقدس. وحبقوق الذي تسمّى السفر باسمه هو نبي من بين الأنبياء الصغار كما يشار إليهم. إذ عندما كانت تحل أزمة معينة في الشعب سواء كانت أزمة سياسية يدخل فيها الحابل بالنابل وتفقد الأمة صواب الرؤيا، أو كانت أزمة أخلاقية انحط بها مستوى التعامل الإنساني بين الناس، أو أزمة روحية تدنّى خلالها المستوى الروحي لديهم، كان الله يقيم نبيًا كمثل حبقوق، أو ناحوم، أو عاموس، أو غيرهم، ليصحح مسار الأمة فيعظهم ويرشدهم ويدعوهم إلى صراط الحق.
وفي زمن حبقوق، قامت أزمة مدمرة في البلاد وحلّت بها مصائب قاتلة، وكانت الأمة تفتقر إلى قائد فذٍّ يحسن إرشاد الأمة ويدعوها للتوبة والرجوع إلى الله، فوقع اختيار الله على حبقوق ليقوم بهذه المهمة.
ويلاحظ القارئ المتأمل في هذا السفر أن حبقوق يتميز بين الأنبياء بالجرأة في خطابه الديني، فقد وجّه سهامه إلى مواطن الخلل في سلوك شعبه، وعبّر عن غيظه بسبب تشكيلةٍ متنوعة من الآثام التي مارسوها. ما أود الوصول إليه في هذا البحث، هو أخذ العبرة من أسلوبٍ تصرّف به حبقوق وهو يتألم من شدة الأزمة التي كان يعاني منها لأجل سلامةِ شعبه.
فهو عبَّر ببيانٍ رائعٍ عن رفضه للاستسلام لليأس حتى وهو في قلب الأزمة المرة، فيقول في معرض ما يقوله:
"يَا رَبُّ، قَدْ سَمِعْتُ خَبَرَكَ فَجَزِعْتُ. يَا رَبُّ، عَمَلَكَ فِي وَسَطِ السِّنِينَ أَحْيِهِ. فِي وَسَطِ السِّنِينَ عَرِّفْ. فِي الْغَضَبِ اذْكُرِ الرَّحْمَةَ". بمعنى: يا رب، الحالة التي وصلنا إليها تدعو لليأس، لكن الأمل الوحيد الذي به نتجاوز المحن هو أن ترحم. نترجّى رحمتك بأن تحيي عملك في قلوبنا فتحيينا من كبوتنا. نحن أخطأنا ومنك الرحمة.
ثم يقول: "سَمِعْتُ فَارْتَعَدَتْ أَحْشَائِي. مِنَ الصَّوْتِ رَجَفَتْ شَفَتَايَ. دَخَلَ النَّخْرُ فِي عِظَامِي، وَارْتَعَدْتُ فِي مَكَانِي لأَسْتَرِيحَ فِي يَوْمِ الضَِّيقِ".
قارئي الكريم، هذا ولا شك وصف واضح لحالة مأساوية مرَّ بها حبقوق وشعبه. ولعل ذلك يشبه إلى حدٍ كبير أيامًا مرت من قريب أو من بعيد على شعوب الشرق الأوسط.
من المهم هنا أن نتوقّف عند المحطة الأخيرة التي عبّر بها حبقوق عن عمق ثقته بالله رغم كل ما يجري حوله بكلمات لا أجمل ولا أروع، وتحدّث من خلالها بأسلوبٍ رمزي، قال:
"فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ. يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ، وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَامًا. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي. اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي، وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالأَيَائِلِ، وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي".
لا يوجد أجمل ولا أقوى من كلمات كهذه لرجل مؤمن تقي يصف وضعًا مأساويًا يحيط به وبشعبه، ورغم ذلك يتحدّى الصعاب ولا يقنط من رحمة الله أو يجحد مراحم القدير. عن مثل هذه الصورة يقول الشاعر المسيحي:
إن هاجت الأنواء وفاضت المياه
ينير لي الضياء من حضرة الإله
إن قادني يسوع لا أرهب الشرَّ
والهول لا يروع ولا أرى الضرَّ
حكمته تهديني كالنور للبصر
ولطفه يحميني دومًا من الخطر
أما الشاعر والأديب المهندس سهيل مدانات فيطرق جانبًا آخر في هذا البحث فيخاطب ربه بثقة المؤمن الواثق بألطاف الله وإحسانه فيقول:
يا رب
إذا استجبت طلبتي أو شئت ربي الامتناع
في كل حالٍ أشكر إكرامك والاستماع
إذا استجبت طلبتي يا سيدي فالمجد لك
إيضًا إذا لم تستجب ربي فكل المجد لك
وإن أجبت مسرعًا أو إن أردت الانتظار
في كل حالٍ أشكر فأنت صاحب القرار
وربما تسلمني إلى مرام منيتي
في كل حالٍ أشكر لأن فيك نُصرتي
في كل شيءٍ إن مضى حبك لي لن ينتهي
في كل حالٍ أشكر وأحمد اسمك البهي
رائع، رائع! يا أخ سهيل، وما قلته حق، ويعبّر عن ضمير المؤمن الأمين الملتزم بحب الله وطاعته. لأن علاقة المؤمن بربه ليست علاقة تجارية بتبادل المنفعة كما يقال في العلاقات الدبلوماسية بين الدول.
لا تخف يا مؤمن! المسيح قام من قبره وهو حي، والحي يعرف كيف يعتني بأبنائه. المسيح حي وصاحب سلطان، ويعرف كيف يتدخل في حل الأزمة. ولأنه حي يقول: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر".
أخي، أختي، هل وصلتك الرسالة؟
وهل أحدثت لديك تصميمًا جديدًا بأن تواصل حياتك في ثبات بلا تزعزع أو تردد؟