حزيران June 2011
- الزيارات: 1503
تتردد مرارًا وتكرارًا على أسماعنا هذه العبارة: "إن الإنسان تاج المخلوقات"، وهي عبارة حقيقية لا غبار عليها ولا شائبة.
غير أن "تاج المخلوقات" تعوزه أشياء كثيرة يتمتع بها الوحش والحيوان والطير.
فالإنسان أضعف نظرًا من النمر، وأقل شهامة من الأسد، وأضعف قوة من الفيل، وأثقل حركة من الغزال، وأقلّ وداعة من الحمل، وأقلّ جمالاً من الطاووس، وأبعد براءة من الحمامة.
وكم من مرة جلس الإنسان في وحدته، ووحشته، وضعفه، فحسد الطير على بعض ما ينعم من حرية التنقل.
فلقد تمنى داود - وهو ملك ينعم بكل ما تنعم به ملوك العصور الغابرة - أن يستعير جناح الحمامة ليطير ويستريح.
ويحدثنا إشعياء في الشطر الأخير من نبواته الأولى بأن منتظري الرب: "َيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ".
وسأحاول أن أذكر في هذه العجالة أجنحة، بعضها ضار، وبعضها نافع للإنسان:
أ- الأجنحة الضارة بالإنسان
إن أول جناح ضار بالإنسان هو "جناح الحمامة" الذي تمناه داود حين قال في المزمور الخامس والخمسين: "لَيْتَ لِي جَنَاحًا كَالْحَمَامَةِ، فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ! هأَنَذَا كُنْتُ أَبْعُدُ هَارِبًا، وَأَبِيتُ فِي الْبَرِّيَّةِ. سِلاَهْ. كُنْتُ أُسْرِعُ فِي نَجَاتِي مِنَ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَمِنَ النَّوْءِ".
ما النفع من الهرب يا داود، وأنت في البرية محاط بنفس التجارب التي تحدق بك في قلب المدينة العامرة؟
أليس هذا ما اختبره القديس أنطونيوس حين حاول أن يهرب إلى البرية التي تحيط بدير يحمل اسمه المبارك؟ وإذا صوت يقول له: "يا أنطونيوس، إن التجارب التي هربت منها في الإسكندرية سوف تلقاك وأنت في قلب البرية، لأن التجارب ليست محيطة بك، وإنما هي في أعماق نفسك".
وما الحيلة من التهرب من المسؤوليات، وهي لم تزل بعد من الواجبات التي يتحتم على المرء القيام بها إن طال الزمن أو قصر؟
إن نداء الساعة لكل مؤمن حقيقي هو الحرب لا الهرب... هو العزيمة لا الهزيمة... وإن خير شعار يحمله المرء الحقيقي هو قول نحميا: "أرَجل مثلي يهرب"؟
وهناك جناح آخر ضار بالإنسان - هو جناح التعالي الذي حدثنا عنه بولس الرسول في رسالته الخالدة إلى أهل رومية:
"فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي، لِكُلِّ مَنْ هُوَ بَيْنَكُمْ: أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ، كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَارًا مِنَ الإِيمَانِ".
الارتقاء مطلوب. ولكن الارتياء منبوذ. أولهما طموح إلى العلى. وثانيهما مجمّل بمطامع شعبية نحو التعالي غير المحمود.
وإليكم جناحًا آخر يجب أن ننبذه ولا نؤمَّل في الحصول عليه، هو جناح النعامة. فهو جناح يضر من غير أن ينفع. لأنه يجعل النعامة بين طائر وجمل، لكنها ليست بطائر ولا جمل؛ فلا هي تطير كالطائر، ولا هي تحمل الأثقال كالجمل. إنها مثال للذين يعرجون بين الفرقتين. فلا هم مع رجال الله يجاهدون ويناضلون ويخدمون، ولا هم مع رجال بليعال يفسدون ويفجرون. لأنهم مكتفون بأن يضعوا رِجلاً في الجحيم، ورِجلاً أخرى في النعيم. مثلهم كالذباب، لا يحب النور، ولا يرغب الظل، فيتخذ لنفسه موقفًا بين النور والظل.
يذكّرنا النعام بموقف نيقوديموس الذي جاء إلى يسوع ليلاً، وبيوسف الرامي الذي جاء يطلب جسد يسوع خلسة، لأنه كان يحب المسيح ولكنه كان في الوقت نفسه يخاف اليهود.
فهل نخرج مع نيقوديموس إلى المسيح في وضح النهار غير هيابين؟!
ب) الأجنحة النافعة للإنسان
هذه هي أجنحة النسور التي يحدثنا عنها إشعياء في نبواته قائلاً: "وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ".
يُكنى بأجنحة النسور عن الصلاة التي يرتفع بها الإنسان إلى محضر الله ويسمو إلى عرش النعمة.
ليس من قوة في الوجود تعادل قوة الصلاة في فعلها، "طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها". بالصلاة ننقل الجبال، وأمام حرارتها يذوب جمد الصعاب، وأمام تيارها الجارف تكتسح كل العقبات التي تقوم في سبيل الإنسان.
ما من قوة في الوجود يرهبها الشيطان مثل قوة الصلاة. لأن الشيطان يرهب أضعف مؤمن متى رآه جاثيًا على ركبتيه، وهو لا يرهب وعظنا ولا يبالي باجتماعات لجاننا، ولا يهتم بمجهوداتنا ومساعينا، متى كنا نؤديها ونحن بعيدون عن روح الصلاة.
يحكى عن أحد المؤمنين أنه لم يكن يستعمل "ورق النشاف" قطعيًا، لأنه كان يستعيض عنه بالصلاة. فكلما كتب رسالة وملأ صفحة، رفع وجهه إلى الله في الصلاة، وفي هذه الأثناء تجف الكتابة.
ويكنى أيضًا عن أجنحة النسور بحياة التسامي فوق الصعاب والمتاعب التي يلقاها الإنسان في الحياة.
فكم من جبال نلقاها أمامنا، وإذ نحاول أن نتغلب عليها بالزحف، أو بالدوران حولها، يدركنا الفشل المحقق، لأن الله أراد لنا أن نتغلب عليها بالتسامي فوقها بقوة الصلاة، التي ترفعنا فوقها أجنحة النسور.
بأجنحة النسور نرقى فوق السفاسف والدنايا والإساءات.
بأجنحة النسور نستطيع أن نرقى فوق الضباب، والسحاب والغيوم. فنرى وجه الشمس مشرقًا علينا باستمرار.
بأجنحة النسور نستطيع أن نعرف النسب الحقيقية التي في هذا الكون بالقياس إلى الأشياء الأخرى غير المنظورة الكامنة في صدر الأبد والخلود، فنحتقر الأشياء المنظورة، إذ نراها في نور غير المنظور، ونزدري المادة إذ نراها في حضرة الروح.
إن الذي يحمل أجنحة النسور، يطير إذا اقتدر، وإذا لم يسعفه الطيران ركض، وإذا تعذر عليه الركض مشى، وهو في كل هذه الأدوار الثلاثة يطير من غير جهد، ويركض بغير تعب، ويمشي بغير كبير عناء.
قد تكون هذه الحالات الثلاث متمشية مع ثلاثة أدوار حياة الإنسان المادية - فالشاب يطير، والرجل يركض، والشيخ يمشي.
وقد تكون متمشية مع ثلاثة أدوار حياة الإنسان الروحية - في بدء بهجة خلاصه يطير، وبعد أن يتقدم في الاختيار يركض في سبيل خدمة الله، وفي ميدان كلامه الصالح - وبعد أن يكتمل وينضج يمشي في جدة الحياة.
ما من سبيل إلى الحصول على أجنحة النسور إلا عن طريق انتظار الله بدليل قوله الجليل: "وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ". قد يُظَنّ أن انتظار الرب يعدّ أيسر الأمور لكنه من أعسرها... أن يجلس الإنسان - أو يجثو - أمام الله صامتًا، لا يقول شيئًا ليعطي الرب فرصة ليتكلم هو. وهذا صعب على الإنسان الطبيعي - لأننا نريد أن نتكلم باستمرار ولا نعطي الرب فرصة ليقول شيئًا.
جيد للمرء أن يحمل النير منذ صباه... فأعنّي يا إلهي لكي أظلّ أمامك صامتًا صابرًا منتظرًا.
تكلم يا رب لأن عبدك سامع.