تشرين الثاني November 2011
لم تكن عصا موسى تختلف عن عصي بقية الرعاة. فمنذ هرب موسى من مملكة مصر إلى أرض مديان، انهمك في رعاية الغنم، وكان لا بدّ أن يعتمد على عصاه في كل عمل يقوم به،
لم تكن عصا موسى تختلف عن عصي بقية الرعاة. فمنذ هرب موسى من مملكة مصر إلى أرض مديان، انهمك في رعاية الغنم، وكان لا بدّ أن يعتمد على عصاه في كل عمل يقوم به، ولا سيما عندما يقود قطيعه إلى البرية. فعصا موسى كانت،
أولاً: عصا الدفاع
كما يبدو من السجل الكتابي، فإن موسى لم يكن يحمل معه سيفًا أو ترسًا أو أية أداة من أدوات القتال. ويجدر بنا أن لا ننسى ما أورده الكتاب المقدس عن حياة موسى والحقبة المهمة التي قضاها في قصر فرعون تحت رعاية ابنة فرعون، أمه بالتبني. ولا شك أن موسى قد تدرّب على فنون الحرب والدفاع عن النفس، بل حتى على الاستراتيجية العسكرية. وندرك من التقاليد اليهودية - إن صحّت - أن موسى كان يقود بعض الفرق العسكرية المصرية في المعارك التي كان يخوضها ضد أعداء مصر. ولكن هذه العصا في البرية كانت للدفاع عن نفسه من الوحوش الكاسرة التي تحاول أن تهاجمه أو تفترس بعض قطيعه في غفلة منه. ونحن نعلم أن موسى قد تحدّر من النسل الإسرائيلي الذي امتهن في معظمه، رعاية القطعان والمواشي، وفي أرض مديان كان يعيش في مضارب حميه مع زوجته. وهكذا اختلفت حياته كلها عما كانت عليه في أرض مصر.
ثانيًا: عصا الهجوم
لم تكن البرية موطن الوحوش الكاسرة فقط، بل كانت أيضًا موئلاً للصوص وقطاع الطرق والهاربين من وجه العدالة؛ وقد أدرك موسى الذي تمرّس على أفانين الحرب أن عليه أحيانًا أن يبدأ بالهجوم ويأخذ أعداءه على حين غرة، وبذلك يحقق لنفسه النصر وحماية نفسه ومواشيه التي في عهدته.
طبعًا، إن هذه العصا لم تكن لها فاعلية السيف والمركبات الحربية والسهام، ولكنها كانت في يد محارب ماهر قادرة على الدفاع والهجوم. إن عصا موسى هذه تذكرنا بمقلاع داود الذي جابه جليات الجبار الذي كان مدجّجًا بالسلاح، وقد ارعب الجيش الإسرائيلي بكامله فلم يجرؤ أحد على مجابهته. ولكن مقلاع داود الذي هو مقلاع الرب استطاع أن يقضي على هذا الجبار على الرغم من عنجهيّته، وضخامته وتاريخه الحربي. وكما كان داود يستخدم مقلاعه في الدفاع والهجوم كان موسى أيضًا يفعل ذلك.
غير أن السر لم يكن في عصا موسى أو مقلاع داود، إنما كان كامنًا في قوة من كرسهما لخدمته، وإني أودّ في هذه الدراسة الموجزة أن أعالج هذا الموضوع من زاوية مختلفة، أي ماذا أصبحت عليه هذه العصا بعد لقاء موسى الرب عند العليقة المحترقة؟
لقاء موسى مع الرب
وقف موسى على أرض مقدسة لم يعرفها من قبل. ومن أعماق العليقة الملتهبة خاطبه الرب في تلك البرية القاحلة التي تنطوي على المخاوف. كان في وسع الله أن يلتقي موسى في أي مكان آخر كمثل أماكن العبادة، أو أمام مذبح، أو في خلوة صلاة، ولكنه كما يبدو، أراد أن يلقّن موسى درسًا في حضوره الدائم في كل مكان، بل حتى في الأمكنة المقفرة.
ودار حوار طريف بين الله وموسى. فقد أرادت مشيئته أن يختار موسى ليكون الأداة التي يستخدمها في تحرير شعبه بعد عبودية امتدّت عمّا يزيد عن أربع مئة سنة. ارتعب موسى أمام الرب، وأدرك جسامة المسؤولية التي يطالبه بها، فحاول جهده أن يتهرّب منها، وما على القارئ إلا أن يراجع أحداث هذا اللقاء في سفر الخروج الأصحاح الثالث حتى يتبيّن مواقف موسى المتردّدة وما تذرّع به من أعذار واهية. ولكن الرب لم يترك لموسى مخرجًا ووضعه أمام الحقيقة التي غيّرت مجرى حياته. وفي اللحظة المتأزّمة التي حمي فيها غضب الرب على موسى سأله:
- ما الذي بيدك يا موسى؟
سؤال غريب! ألا يرى الرب أنها عصا الراعي التي يدافع بها عن نفسه، ويتوكّأ عليها عند الحاجة؟
- انظر يا رب، إنها عصا!
ولكن كان للرب غرض آخر من سؤاله. هذه العصا هي التي ستصنع المعجزات.
- إنني سأحولها إلى قوة جبارة يعجز حتى فرعون عن مقاومتها.
شاهد موسى بأم عينيه كيف تحوّلت هذه العصا إلى حية أفزعته، فهرب منها، ولكن الرب أمره أن يقبض عليها من ذيلها فعادت عصا.
وتدريجيًا، تهافتت كل أعذار موسى، ورضخ، على الرغم من مناوراته لإرادة الله. وعندما رجع إلى أرض مصر كان معه "أهيه الذي أنا أهيه".
لكل واحدٍ منا عصاه. بل لكل واحدٍ منا مواهبه التي أنعم بها الله عليه. إنها مواهب قد تبدو عادية أو لا قيمة لها، يستخدمها في كل يوم في شؤون الحياة، ولا تكاد تلفت نظر أحدٍ، فالصائغ قادر على الصياغة؛ هذه جزء من مهنته؛ والكاتب ضليع في الكتابة، والموسيقي يتمتّع بموهبة فنية، والمعلم، والواعظ، والحاكم، إلخ... كل واحد له مواهبه، كما كان لموسى موهبة استخدام العصا في الكرّ والفرّ، ولكن هذه المواهب إن لم تكن خاضعة لإرادة الله فإنها تفتقر إلى تلك القوة الروحية التي في وسعها أن تصنع المعجزات. فالمواهب بمعزل عن الله تعتمد في إنجازاتها على الإمكانيات البشرية؛ وقد تلوح هذه الإنجازات مدهشة ومثار إعجاب لدى البعض. ذلك يتوقف على الإحوال المحيطة بصاحبها. ولكن الروعة التي لا يدركها أحد أن كثيرًا من هذه المواهب التي تتراءى عادية في نظر الناس، ولا تأثير لها على حياة الآخرين، تمتد إليها يد الرب، وتضرمها بالقوة فتتحوّل من عصًا إلى حية، أو تنبض بالقوة فتشق البحر، وتُبْجِسُ الماء من الصخر، ويرى الناس فيها قوة الله العاملة في حياة الأفراد.
ولست أشك لحظة واحدة أن موسى لم يصدق عينيه عندما شاهد العصا تتحوّل إلى حية، ولكن الرب أراد أن يعلّمه درسًا بليغًا في الإيمان، فالعصا لعبت دورًا كبيرًا في الضربات العشر التي ابتلى الله بها مصر ليكسر شوكة فرعون. لقد أصبحت هذه العصا مقدسة لأنها صارت عصا الله. وعندما تصبح عصا الله تحدث المعجزات.
في كل كنيسة مواهب هي عصا موسى، ولكن قلّ أن ندرك قيمتها، أو نتبين أهميتها لأننا لا نضعها في خدمة الرب. لم يعطنا الرب هذه المواهب لنهدرها في خدمة عالم موبوء بالشر، فكل ما هو لله يرتبط بإرادته ومشيئته. فكم من شخص مغمور تحوّل إلى واعظ شهير بعد أن أخضع نفسه خضوعًا كاملاً لإرادة الله؟ لنذكر صيادي السمك الذين كانوا مجهولين ولكن بعد لقائهم المسيح، وامتلائهم بقوة الروح القدس استطاعوا بمواهبهم أن يقلبوا المسكونة، بل تحدوا أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ القديم. لقد كرسوا عصاهم للرب فاستخدمها الرب استخدامًا لم يرَ له التاريخ مثيلاً.
إن تهربنا من المسؤولية خوفًا من جسامتها، أو تفاديًا للتضحية يضعف كنيسة المسيح، ويجعلها أقل فاعلية في خدمتها، فالمواهب التي أعطانا إياها هي ليست لنا. هي ملكه وحده؛ ومن حيث أنها ملكه فلا يمكن أن ينالها الإعياء، أو يعتريها الإخفاق. المشكلة الحقيقية هي ليست في المواهب، وإنما في عدم خضوعها لمشيئة الله، وإتاحة الفرصة للروح القدس كي يفجّر فاعليتها في مختلف وجوه الحياة الإنسانية.
حمل موسى معه عصاه إلى أرض مصر. لم يتركها خلفه في البرية. لقد أخذها معه إلى ميدان المعركة، تجنّد بها إطاعةً لأمر الرب، فأرهبت بقوة الله فرعون وجيوشه، وحررت الشعب من ربقة العبودية.
هل أنت مستعد أن تكرس مواهبك كما كرس موسى عصاه؟
إنها لم تعد عصا عادية يرعى بها موسى الغنم، بل تحوّلت إلى قوة هائلة لتمجيد الرب.
قارئي العزيز، تأهّب للخدمة فقد حان الوقت لخوض معركة الخلاص.