تموز July 2012
هلمَّ بنا يا حبيبي، لقد تأخَّرنا عن الموعد ولسوف تبدأ المسرحية خلال دقائق معدودة. قالت الأم لزوجها بنفحةٍ مليئةٍ بالعواطف الجيَّاشة والمفعمة بالتوقُّع الكبير لمستقبل مُغرٍ للابنة الوحيدة "هانا" صاحبةِ أكبر دورٍ في المسرحية التي سوف تُقدَّم للتوّ على خشبة المسرح في إحدى قاعات الجامعة. ولمَّا وصلا استقبلهما طالبٌ على باب القاعة، وأخذ منهما بطاقتيهما مرحِّبا بهما أجملَ ترحيب لأنهما والدا هانا. وما أن دخلا القاعة المكتظة بالأهالي من كل حدبٍ وصوب، حتى راحا يفتشان عن مكانيهما في الصفوف الأولى. ولمَّا وجداهما جلسا وهما يلتقطان أنفاسهما، والسرور والغبطة ينبعثان من وجهيهما اللذين سرعان ما أشرقا حين رأيا ابنتهما بطلة المسرحية تطلُّ من على المسرح وصديقها البطل يتبعها وسط تصفيق الأهالي الحاد.
نعم، وبدأ البطلان بتأدية دوريهما بشكل ملفتٍ للنظر لكثرة ما فيه من عواطف جيَّاشة وقوة للكلمة المقولة، وللتعابير التي تترك آثارها على الفكر والوجدان. وبينما الوالدان، الأب الطبيب والأم مربية الأجيال، ينتظران بكل توقّع نجاحًا كبيرًا لابنتهما المحبوبة، إذا بـ هانا، ذات الثمانية عشرة ربيعًا تتلعثم في كلامها فجأةً. وعندما حاول صديقها (Jason) تذكيرها بطريقة فنيَّة، شَحُبَ وجهُها وأصابها دوارٌ عنيف أوقعها أرضًا وهي فاقدة الوعي. للحال صعد والدها الطبيب إلى المسرح وحاول التخفيف من حدة التشنجات الصَّرعية التي انتابتْها إلى أن حضرت سيارة الإسعاف ونقلتها إلى المستشفى وهي في حالة الغيبوبة. وبدت علامات الخوف على وجه الأب والأم وهما يرافقانها إلى المشفى. وبعد أن أُجريت عليها الفحوصات اللازمة، ومُنحت الأدوية التي تساعد حالتها، استقرَّ وضعُها واسترجعت هانا — تلك الفتاة الجميلة — عافيتها بعد أيامٍ وجيزة فقط. وقبل مغادرتها المشفى، كان لا بدَّ لها أن تُعايَن من قِبَل أحد الأطباء المختصِّين صاحب والدها الحميم. وبينما هانا ووالداها مجتمعون في العيادة، صرّح الطبيب وقال: تبيّن من الصور الشعاعية للدماغ بأنَّكِ يا هانا تعانين من هذه النوبات الصَّرعية بسبب ولادتِك المبكرة. لكنَّ الدواء سوف يساعدك على تخطِّي هذه الأزمة. أما المشكلة الأخرى والأهم فهي النظرة السوداوية التي تنظرين بها إلى الأشياء لأنَّ مَن يكتب مثلَ هذه التساؤلات لا بدَّ أنه يمرُّ بفترةِ اكتئاب. نعم، لقد أُخبرتُ بما كتبتِه في دفتر مذكّراتك لذلك فأنا أودُّ معالجتك نفسيًا أيضًا. وهنا، ما كان من هانا الصبية إلاَّ أن وقفت في وسط العيادة ونظرت إلى والديها نظرةَ عتابٍ أليم أصابت أمها في الصميم. وقالت : هل قرأتما دفتر مذكراتي؟ هذا لا يجوز لكما البتة. فهو خاصٌّ بي وحدي لماذا فعلتما هذا؟ وراحت تبكي بحرقة. فما كان من والدها إلا أن احتضنها بين ذراعيه وعيناه مغرورقتان بالدموع ولم يقدر أن يفوه بالخبر الذي أخفاه والأم عن ابنتهما الوحيدة. لكن الأم قررت لحظتئذٍ بالتصريح به فاقتربت من ابنتها وقالت: أنا ووالدك لسنا أبويك الحقيقيين. لقد تبنَّيناك وأنت بعد طفلة. صُعِقت هانا لهذا الخبر، وشعرت وكأنَّ عالمَها كلَّه قد انهار من تحتها. فتركت العيادة في الحال وذهبت بسرعة البرق إلى البيت ودخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب وراءها. ولمَّا وصل والداها، رفضت أن تفتح الباب لأيٍّ منهما. وبقيت هناك في غرفتها حتى صباح اليوم التالي، حين طلبت من والدها شهادة ميلادها. لكنه أوضح لها بأنَّه لا يستطيع أن يفعل ذلك، فقالت لها الأم: لقد وُلدتِ يا ابنتي في مدينة موبيل، بولاية ألاباما، وهذا كل ما نقدر أن نقوله لك. وهنا تركت هانا البيت لتخلو إلى نفسها واتجهت نحو البحيرة حيث ذكرياتها الحلوة مع صديق الطفولة جايسن Jason. وبينما هي هناك غارقة في بحر أفكارها، التقاها جيسن نفسه الذي مثَّل معها على المسرح. وجلس قريبًا منها صامتًا لا يتكلم. ولمَّا فتحت فاها بالكلام كان الحزن والألم يعتصران قلبها وكل كيانها. وأخبرت جيسن بما حدث. وتكلمت عن صدمتها الكبرى وخيبة أملها بوالديها المؤمنَيْن اللَّذين ربَّياها على الصدق والأمانة، على خوف الله ومحبة المسيح. وعندما استجمع جيسن قواه، حاول التخفيف عنها وطلب منها أن تنظر نظرة متفائلة إلى الأمور كما عرَض عليها أن يرافقها إلى موبيل، ألاباما حيث مسقط رأسها لكي تفتش عن جذورها، عساها تجد أمها التي أنجبتها. وافقت هانا على ذلك وذهبا معًا في رحلة لفكِّ هذه الألغاز المحيِّرة، على الرغم من اعتراض الأب على ذلك. وحين وصلا إلى المشفى، حاولا الدخول من الباب الخلفي الذي فتحاه عنوةً لأنَّ الباب الرئيسي كان مغلقًا ممَّا جعل جرس الإنذار ينطلق بقوة فهرعت الشرطة إلى المكان. وعندها تمَّ توقيفهما، واستجوابهما، وعرف الشرطي بقضيتها، فَرقَّ قلبه لحالها، وحاول مساعدتها لكونه أبًا لثلاثة أطفال. فأعطاها معلومات عن إحدى الممرضات التي كانت تعمل آنذاك في عيادة للإجهاض واسمها ماري. فانطلقت هانا وجيسن إلى بيتها والتقت هانا بها، أما جيسن فبقي في الخارج ينتظر.
وبعد حوالي الساعة من الانتظار خرجت هانا من بيت ماري وهي محبطةُ العزيمة، شاردةُ الذهن، لأنَّ أمها الحقيقية كانت قد أنجبت توأمًا من جرَّاء علاقةٍ عابرة. وأرادت التخلُّص من حَمْلها الذي سيؤثر على مستقبل دراستها. لذا وفي يوم عملية الإجهاض المعيَّن فوجئت ماري الممرضة بأنَّ الفتاة قد بدأت تعاني من آلام المخاض قبل موعدها، فأحالتْها إلى المستشفى. وهناك وضعت صبيًا من دون ذراعين، وطفلةً جميلة ذات عينين واسعتين. وللحال تركتهما هناك ورحلت إلى ولايةٍ أخرى حيث تابعت تعليمها وصارت محامية مشهورة. حاول جيسن مواساة هانا على اكتشافها الأليم هذا، بينما راحت تشهق وتبكي وتقول له: إنَّ لديَّ أخًا معاقًا فأين هو يا ترى؟!
لم ينتهِ التفتيش هنا، بل تابعت هي وجيسن رحلتهما حتى وصلا إلى مكان عمل الأم بعد أن أعلنت لها ماري عن اسمها الحقيقي. وفاجأتها في مكتبها وأرتْها وريقةً صغيرة تحمل اسمَها وتاريخَ ولادة التوأم، في أكتوبر. لكن لسوء الحظ تنكَّرت المحامية بأنَّها أمها الحقيقية واعتبرتها مخطئةً تمامًا. وهنا خرجت هانا من مكتبها، وهي مكسورة الخاطر لا تعرف ماذا تقول لصاحبها جيسن الذي احتمل متاعب هذه الرحلة معها. وفجأةً، ظهر والدها الطبيب الذي كان يفتش عنها من مكان إلى آخر، وأمرها أن تمتطي السيارة ليعود بها إلى البيت، كما طلب من جيسن ألاَّ يتدخَّل في هذه الأمور التي تخصُّ العائلة فقط.
وفي صبيحة اليوم التالي استيقظت هانا وراحت تسجِّل في دفتر مذكراتها مغامرات رحلتها للتفتيش عن أمها الحقيقية، وكيف شعرت بالرفض حين أنكرتْها. عندها طرقت الأم على باب ابنتها فسمحت لها بالدخول وهناك جلست على الفراش إلى جانبها وأرتها صورتها وهي في أوائل العشرينات حين كانت حاملاً. فاستغربت هانا. وراحت الأم تسردُ قصتها مع حمْلها بالتوأم، وكيف خسِرت الطفلين. وكم كان ذلك صعبًا عليها وعلى زوجها الذي كان بعد طالبًا في كلية الطب. وصلّيا عندها كثيرًا لكي يهبهما الرب من السماء تعزية لهذا الفقدان الكبير. وأخبرتها أمها أيضًا كيف تطوَّعت للعمل في "مراكز التوعية عن الحمل من دون تخطيط". وكيف أنها سمعت يومًا بأنَّ هناك توأمان وُلدا منذ أيام في المستشفى المجاور قد تخلَّت عنهما أمهما. فهرعتْ هي وزوجها وطلبا تبنِّي الطفل والطفلة. وأخبرتها كيف شكَرا الله على البديل الذي منحهما إياه الله.
"نعم، وهذه هي شهادة الميلاد تثبت ذلك يا ابنتي." قالت الأم: "لقد كان لديك أخ بالفعل أسميناه جوناثان، عاش أربعة أشهر فقط وصرفنا عليه المال الكثير في العلاج، لكنه للأسف مات. فتعلَّقنا نحن الاثنان بكِ يا ابنتي، لأننا لا نريد أن نخسرَ مرة أخرى. أنتِ الآن كلُّ حياتنا وأملنا وليس لنا في الدنيا غير الله وأنتِ."
وهنا أتى الوالد ووضع يده على زوجته وابنته معتذرًا لها عن كتمِه الأمر عنها. وأعطاها تذكرتَي طائرة طالبًا منها أن تصطحبه معها لكي تزور والدتها للمرة الأخيرة فتطوي صفحة الماضي وتخبرها بقرارها في الغفران لها. هذا القرار الذي اتخذته هانا بعد أن نصحَها أحد المرشدين الروحيين بالقيام بهذه الخطوة. "لكن وقبل أن نذهب يا ابنتي"، قال الأب: "أريد أن آخذك لزيارة أحد الأماكن". ولمَّا وصلا إذا بهما في حقلٍ للمقابر. وهناك أراها قبر أخيها الطفل جوناثان، وصرَّح لها والدها الطبيب بأنه بعد فقدان جوناثان، تعلَّق بها تعلُّقا شديدًا وصار يخاف عليها من نسمات الريح.
وقال: "لقد قررت أنني لن أدعك تفلتين مني أبدًا. لقد أخطأت يا حبيبتي فسامحيني. أنا الآن أتعلَّم من جديد كيف أثق بالله أبي السماوي. فعُذرًا لكِ يا هانا."
وهناك أمام قبر أخيها تصالح الأب وابنته. وسافرا بعدَها إلى المدينة التي تعمل فيها المحامية الشهيرة والدة هانا الحقيقية، وعلى مكتبها تركت وريقة صغيرة مكتوب عليها:
لقد غفرتُ لكِ.
طفلة أكتوبر
وحدثَ بعد عودة المحامية من فرصة الغذاء، أنها قرأت الورقة فانهارت وراحت تبكي حسرةً وندمًا على تركِ التوأم الذي ولدَتْه وتركته للأقدار. وحين رجعا من مهمتهما عاد الأب بالاتصال بـ جيسن صديق هانا، لأنه تأكد بأنه إنسان صادق بالفعل حين ساعد ابنته في التفتيش عن أمها. وسأله: "لماذا فعلتَ كل هذا؟" قال له جيسن: إنني أحب هانا وأريد الزواج بها. وعاد جيسن إلى هانا، ورجعا معًا إلى الجامعة وهما مخطوبان وشكَر والدا هانا الله على عطيته التي أنعم بها عليهما.
* * * * *
إنَّ قصة هانا يا قرائي الأكارم، هي فيلمٌ قيّم حضرته مؤخرًا لقصةٍ حقيقية قامت بأداء دور أم هانا المحامية فيه، ممثلةٌ قديرةٌ اختيرت يومَها لتمثيل هذا الدور. وبينما هي تمثِّل انفجرت باكيةً لأنَّها كانت فعلاً قصتها الحقيقية ولم يعلم المخرج ذلك بالطبع. ولقد عبَّرت أم هانا عن مشاعرها بصدق لأنها كانت تجربتها هي.
هناك البعض من الآباء والأمهات ممَّن يُخفون عن أولادهم المتبنِّين هذه الحقيقة، إلى أن يقعوا في تجربة كهذه فيتعرض الأولاد للصدمة ويعيشون فترةَ ضياع ومرارة. أما أنا فإنني أعرف أزواجًا على النقيضِ من ذلك إذ عندما سُنحت لهم فرصةُ التبنِّي، لم يُخفوا الأمر عن أولادهم بل أخبروهم بحقيقة ما حصل منذ الصغر فكبُروا مع القصة، وصاروا يَعتبرون أنفسهم بأنهم مميَّزون جدًا لأنهم وجدوا مَن يحبُّهم بالفعل ومن يريدهم بالحق. أليس في هذا ما يذكِّرنا نحن البشر بما فعله اللهُ الآب من أجل أن نصبح نحن أولاداً له من جديد عن طريق التبنّي؟ هذا ما يقوله الروح القدس على لسان بولس الرسول: ".. إذ سبق فعينَّنا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب" (أفسس 5:1).
نعم لقد اختارنا الله في المسيح لكي نصبح أولاده من جديد. نحن الذين سمعنا كلمة الحق فآمنَّا وخُتمنا بروح الموعد القدوس. فيا لسعادتنا إذ تبنَّانا الله الآب وهكذا أصبحنا أولادًا له من جديد. بالحق يا لروعةِ هذا الإنجاز الذي صار مُتاحًا لنا في شخص المسيح فقط. فهل ندركُ حقًا مركزنا في المسيح؟ وهل ندعو الله خالقَ الكون العظيم ونقول له: أبانا، وشكراً يا بابا!