آب Agust 2012
تناولت في بحث سابق قصة عصا موسى وكيف تحوّلت من عصا عادية إلى عصا معجزية بفضل قوة الله القدير. وظلت هذه العصا تتمتع بالخصائص التي وفرها لها الله طيلة الفترة التي كانت فيها أداة في تنفيذ الخطة الإلهية التي رسمها الله لموسى ولشعبه في إبان الظروف القاهرة، والمواقف اليائسة،لا فرق في ذلك إن كانت في مصر، أو في القفر أو أمام البحر. فهي لم تكن عصًا عادية لأن القابض عليها لم يكن كائنًا عاديًا!
ولا يجدر بنا أن نظن أن موسى كان هو رب هذه العصا أو سيدها، فهو أداة طيّعة كانت في يد الرب يرضخ لإرادته ومشيئته، ويفعل ما يؤمر به. فالقوة التي كانت في العصا مصدرها الله، وفي اللحظة التي يتخلّى عنها الله تتحوّل إلى عصا عادية لا حول لها ولا قوة.
وعندما عزم الرب أن يرسل موسى لمجابهة فرعون، وليخاطب شعب إسرائيل الراسف في عبودية المصريين، قال له الرب: "وَتَأْخُذُ فِي يَدِكَ هذِهِ الْعَصَا الَّتِي تَصْنَعُ بِهَا الآيَاتِ" (خروج 17:4).
وفي الواقع، لو أخذنا هذه العصا ووضعناها بين عصيّ أُخر قد لا نجد فيها — حسب الظاهر — ما يميزها عنها. ولست أشك لحظة واحدة أن بني إسرائيل عندما شاهدوها أولاً في يد موسى لم تكن في نظرهم أفضل من أي عصًا يحملها راع أو يتوكّأ عليها شيخ. وقد يكون لنا في هذا درس بليغ لحياتنا الروحية:
إن مدى تأثيرنا الروحي على الآخرين لا يتجسّد في مظاهرنا، أو فيما نحاول لأن نعطيه من انطباع شخصي بتأثير سعينا وراء النفوذ أو الشهرة، أو حب العظمة، بل هو في النتائج الروحية والسلوك المسيحي الناجم عن عمل الله في حياتنا.
لقد أدرك موسى في أثناء تأهبه للعودة إلى أرض مصر أهمية هذه العصا التي اتخذها الله وسيلة للتأكيد على أن موسى هو مرسل منه، وأنه يحمل دعوة خاصة لشعبه الذي ناءَ تحت وطأة الطغيان، والأعمال الشاقة. كذلك لم ينظر موسى إليها بصفتها عصاه لأنها أصبحت منذ لقائه بالله في العلّيقة — عصا الله! لهذا يقول الكتاب المقدس في نهاية استعدادات موسى لبدء رحلته إلى قومه "وأخذ موسى عصا الله في يده" (خروج 20:4).
وأودّ هنا أن أطرح هذا السؤال عليك يا قارئي الكريم:
ماذا يحدث لمهمة موسى الجسيمة لو رجع إلى مصر من غير عصا الله؟
هل كان في إمكانه أن يبرهن عن أنه مُرسل من قبل الله؟ هل كان في وسعه أن يجري المعجزات التي أعلنها له الله بقوته الشخصية؟
هل كانت لديه القدرة على إثبات مصداقية رسالته بأنها من الله؟
وأكثر من ذلك، هل كان في طوقه إقناع رؤساء الأمة بسلطته التي تسلمها من الله ليقود شعبه إلى الحرية؟
يذكرني هذا الوضع بقول المسيح لنا: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله". فنحن لا نستطيع أن ندّعي بأننا أولاد الله لو لم يعطنا الله هذه السلطة. هذه السلطة هي رسالة مبصومة بدم المسيح التي تميّزنا عن سوانا ممن لم يحظوا بها. لا يستطيع أي واحد لم يختبر نعمة الله وخلاصه أن يدّعي بأنه ابن الله لأن ليست عليه البصمة الإلهية التي هي من حق المؤمنين فقط.
أجل، لقد رجع موسى إلى مصر وأخذ معه عصا الله.
كما ترى يا قارئي، كان على موسى أن ينتقل من أرض مديان حيث كان يتمتّع بحياة هادئة بسيطة خالية من الصراعات الدينية والسياسية والاقتصادية، يعيش في خيمة مع أفراد عائلته، ومحاطًا بذوي زوجته، يرعى الغنم، ليبدأ حقبة تاريخية مفعمة بالمعارك الروحية والجسدية ولا سيما مع الأمم التي كانت قائمة في الطريق التي سيسلكها الشعب إلى أرض كنعان. وهنا المشكلة التي تجابه كل واحد منا. فكما كانت لموسى مشاكله الإدارية والسياسية والعسكرية والتموينية، فنحن أيضًا في هذا المجتمع نتعرض لمختلف ظروف الحياة وتقلباتها.
لم تكن انتصارات موسى بفضل قوته الشخصية ولا من جراء براعته ومواهبه، فكم من مرة تمرّد عليه شعبه، وثاروا على أوامره واتهموه كذبًا وزورًا حتى أخوه هارون وأخته مريم اتخذا منه، في ظرف معيّن، موقفًا معاديًا. ولكنه تمسك بعصا الرب، فهو القائد الذي اختاره الرب، وهو اختبار لا يستطيع أحد الاعتراض عليه وإلا نزل به العقاب، وفوق ذلك كله سلّمه الله صولجان الملك المقدس كأعظم سمة لهذا الاختيار.
وبمثل هذه السلطة التي لا تضاهى دخل موسى وهارون على قاعة عرش فرعون وقالا له: "هكذا يقول الرب إله إسرائيل، أطلق شعبي ليعبدوني في البرية".
وبكل سخرية أجابهما فرعون: "من هو الرب حتى أسمع لقوله؟... لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه".
لو كان فرعون على بيّنة مِنْ مَن هو هذا الرب الذي يتحداه بمثل هذا الكلام لاعتراه الرعب، ولكن كما يقول صاحب المزامير: "قال الجاهل في قلبه: ليس إله".
كانت العصا الإلهية، رمز السلطة والقوة، ما برحت في يد موسى، وهي شعار لحضور الله في ذلك اللقاء الغريب. وما أروع أن نتذكر دائمًا أن حضور الله معنا يظل يرافقنا، وإن بدا لنا أحيانًا أننا متروكون، مستوحشون! هل ارتاع موسى من كلام فرعون؟ هل أصابه الإعياء والرعب؟ لست أعتقد ذلك لأن العصا التي كانت بيده كانت عصا الله. إنها ما برحت معه وهو يمثل من أرسله وهذه هي سفارته.
لقد أدرك موسى في لحظة بأنه لم يكن وحده في هذه المواجهة فأصبحت لديه الجرأة الكافية لكي يتمسّك بموقفه.
نعم، لقد دخل موسى إلى قصر فرعون وعصا الله معه، وخرج من هناك والعصا ما انفكت بيده. أليس في هذا انعكاس لقول المسيح للمؤمنين والكنيسة: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر"؟
استشاط فرعون غضبًا على موسى وهارون والشعب. وكان لذلك تأثير كبير على الشعب الذي أثقل فرعون كواهلهم بمشاق جديدة تحدّيًا لقول الرب. وسخط الشعب على موسى وهارون أيضًا، ولكن ماذا فعل موسى؟ لم يتهرّب من المسؤولية وإن خالجه شيء من الشك والضعف، ولكنه كما يقول الكتاب المقدس: "فرجع موسى إلى الرب وقال: "يا سيد، لماذا أسأت إلى هذا الشعب؟ لماذا أرسلتني؟ فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب، وأنت لم تخلّص شعبك" (خروج 22:5-23).
لا ريب أن نبرة أسى قد اختلجت في قلب موسى، بل نرى نغمة الشكوى تتردد في كلامه. ولكن الشيء المفرح أن موسى لم يكن يشكو مما أصابه، بل كان يتألم من أجل الشعب الذي زاده فرعون إرهاقًا وعذابًا. لقد تحرر موسى من أنانيته، واستولى عليه الحزن من أجل قومه وما استبد بهم من ظلم. ربما في تلك اللحظة نسي أن عصا الله كانت لا تزال في يده. إن في هذه العصا، إرادة الله وقوته من أجل تنفيذ مواعيده وميثاقه مع إبراهيم. وهنا تتجاوب في أذني موسى أصداء خطاب الله إليه:
"فقال الرب لموسى: الآن تنظر ما أنا أفعل بفرعون. فإنه بيدٍ قوية يطلقهم، وبيد قوية يطردهم من أرضه" (خروج 1:6).
إن عصا الله لا تزال في يدك يا موسى. لا تقلق ولا تستعجل الأمور، لا بدّ لي أن أعاقب هذا المتجبّر العاتي الذي قال: "من هو الرب حتى أسمع أقواله؟". إن مواقفه وعناده سترتد عليه بالعواقب الوخيمة.
من الواضح في سياق قصة موسى مع فرعون أنه لم يسعَ للانتقام من فرعون، ولم يكن له عدوًا، بل وفر له فرصة إطاعة الله وأوامره أكثر من عشر مرات. شهد فرعون عجائب الله، ورأى ما نزل به من خراب ودمار وعقاب، وعاين إخفاق السحرة والحكماء وحتى عظمائه في مقاومة ما حلّ به وبمصر من كوارث، ولكنه قسّى قلبه وأبى أن يتراجع.
ألم يكن في جميع الضربات والأوبئة التي حلت بمصر الصوت الصارخ بتحذير الرب لفرعون؟ لقد شاهد بأم عينيه قوة الله الذي استخفّ به واحتقره، ومع كل ذلك فإن القلب البشري المتحجّر ازداد صلابة وعنادًا. وكان آنئذ لا بدّ للضربة القاضية أن تقع: موت جميع أبكار المصريين!
عندما التقى الله مع بولس على طريق دمشق سأله: لماذا ترفس مناخس؟ أدرك بولس مغزى هذا السؤال، واستسلم لدعوة الرب على الفور، على نقيض موقف فرعون الذي كان يرفس مناخس، فتدمّيه الجراح، وتحل به النكبات، وينقلب عالمه رأسًا على عقب، ومع ذلك ثابر على عناده اعتقادًا بألوهيته؛ فهو ملك شعب قوي، فهل يرضخ لإله شعب من العبيد؟
وفي جميع هذه الأحداث كانت عصا الله تنتصب شامخة بقوة وتنجز معجزات الله التي أمر بها. استخدمها موسى بقوة لعلّ فرعون يرتدع عن شره ولكنه تمادى في غيّه إلى حدٍّ رهيب إلى أن وجد نفسه أخيرًا في مأزق لا مخرج منه وتم قول الرب لموسى: "فإنه بيدٍ قوية يطلقهم، وبيد قوية يطردهم من أرضه".
أخي المؤمن، إن الله يريد أن يستخدمك لمجده. وهذه الدعوة موجهة أيضًا لغير المؤمنين ليصيروا أولاد الله ويتمتعون بسلطانه. كن واثقًا أن المسيح هو رفيقك في كل مكان.