بلغ فساد الجنس البشري في عصر نوح إلى مستوى غير مسبوق. كان الناس في أيام نوح يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون. وعمليًا، لا يوجد أي خطأ في الأكل والشرب والزواج، بل يكمن الخطأ في ممارسة الناس أمورهم العادية المشروعة وهم غير مبالين بوجود الله وكأنه غير موجود، ناهيك عن الأمور غير المشروعة وارتكاب الخطايا الفعلية التي تعتبر تحصيل حاصل طالما أن جوهرالخطيئة موجود وهو التجاهل المتعمد لوجود الله ودينونته. خطايا الناس في أيام نوح لا تختلف عنها في كل العصور (تكوين 11:6) كالفساد الاخلاقي والعنف، وهذه الخطايا تعبر عنها في عصرنا أفلام السينما حيث تسودها فكرتي العنف والجنس.
تلقّى نوح أمرًا ببناء سفينة كبيرة لخلاص أهل بيته من الطوفان القادم الذي قرر الله جلبه على الأرض لإبادة كل البشر وسائر الكائنات الموجودة على سطح الأرض. نرى الله يقوم بجلب دينونات جزئية على البشر من وقت لآخر ويستخدم كوارث طبيعية أو حروبًا أو أمراضًا لمعاقبة البشر وتذكيرهم بفظاعة الشر والابتعاد عنه. هذه الدينونات جزئية ومؤقتة لأن الدينونة الأبدية النهائية قادمة لاحقًا بعد الموت ومجيء المسيح الثاني. يا ترى ماذا فعل نوح في تجاوبه مع الله؟ إذا درسنا قصة نوح في ضوء رسالة العبرانيين 7:11 "بالايمان نوح لما أوحي إليه عن أمور لم تُر بعد خاف فبنى فلكًا لخلاص بيته، فبه دان العالم، وصار وارثًا للبر الذي حسب الإيمان". باختصار فإن نوح فعل ثلاثة أمور هي:
أولا: خـاف
هناك نوعان من الخوف:
- خوف صحي سليم يدفع الإنسان أو الحيوان للحذر وتجنب الخطر.
- النوع الثاني خوف مرضي وهو نوع من القلق غير المبرر أو الهاجس أو الوسواس بحدوث شر أو مكروه غير واقعي.
أما خوف الله فهو احترام شخص الله وكلمته وتصديقها وأخذها دائمًا على محمل الجدّ والوقار مهما كانت آراء الناس أو الظروف المحيطة معاكسة لها. فعندما أوحى الله لنوح بقراره على إهلاك البشر بالطوفان، كان موقف نوح هو تصديق كلام الله على خلاف بقية البشر الذين لم يأخذوا هذا الموضوع بجدية بل بسخرية وعدم تصديق.

ثانيا: بنـى
مخافة الله وتصديق كلمته لا تكفي للخلاص بل يجب أن يرافقها فعل أو قرار عملي باتخاذ موقف جدي بإطاعة الله مهما كلف الأمر. يقول سفر تكوين 22:6 "ففعل نوح  حسب كل ما أمره به الله. هكذا فعل". نوح خاف الله وتجاوب بكل وقار واحترام مع تعليماته المحددة، وهكذا باشر فورًا ببناء الفلك "السفينة" الأمر الذي قد يكون استغرق إنجازه 120 سنة وهي المهلة التي منحها الله للبشر للتوبة ودخول الفلك.
التوبة مفهوم واضح في الكتاب المقدس كان أنبياء العهد القديم يعبرون عنه بعبارة "ارجعوا إليّ" (إرميا 11:18). والتوبة في العهد الجديد تحمل نفس المعنى في كرازة يوحنا المعمدان، "وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية قائلاً: ‘توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات’" (متى 1:3)، وهي نفسها في كرازة يسوع، ومن بعد قيامته كرازة رسله. مفهوم التوبة في لغة العهد الجديد اليونانية تحمل معنى الرجوع وتغيير الاتجاه. كلمة "ميتانويا" اليونانية تعني تغيير الفكر والاتجاه. أي الاقتناع بأمر ما واتخاذ قرار بناء على ذلك بتغيير الاتجاه والسلوك. طبعًا العملية كلها تتم بالإيمان ومعونة الروح القدس وليس بمجهودات شخصية. إن سماع كلمة الله والتأثر العاطفي والندم والحزن لا يكفي لنوال الخلاص بل يجب اتخاذ قرار التوبة الحقيقية وتغيير فكرنا واتجاهنا والرجوع إلى الرب وطلب عونه.

ثالثا: خلـص ودان
كانت نتائج كرازة نوح الطويلة التي دامت حوالي 120 سنة هي خلاص أهل بيت نوح الذين عددهم فقط 8 أشخاص: نوح وزوجته وبنوه الثلاثة وزوجاتهم (1بطرس 20:3). والنتيجة المحزنة هو أن بشارة نوح أدت إلى دينونة بقية البشر الموجودين على سطح الأرض. الله ليس عنده برلمان وتصويت والأغلبية هي التي تفوز، بل الله لديه كلمة يقولها وكل من يؤمن بها يخلص ومن لا يؤمن بها يهلك مهما كان العدد.
كلمة الله لا ترجع إليه فارغة، فهي إما أن تخلِّص أو تدين (إشعياء 11:55). وهكذا كانت خدمة نوح وكرازته الطويلة سبب دينونة وليس خلاصًا للبشر، وبذلك سُجل اسمه في لائحة أبطال الإيمان في عبرانيين 11 وصار أول وارث للبر الذي بحسب الإيمان.

• السابق
• التالي