أيار - حزيران May - June 2013
هذه الرسالة هي شرح لمفهوم كلمات المسيح عن الإله الحقيقي، وهذه هي كلمات المسيح ابن الله في حديثه مع الآب:
"وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 3:17).
وإذ قال المسيح عن الآب أنه الإله الحقيقي وحده، فهذا يعني أن ما عداه آلهة مزيّفة من صنع عقل الإنسان الضال.
وحديثنا الآن سيدور حول الإله الحقيقي، وقبل أن أستطرد في الحديث أقول: إننا الآن ننتقل من العالم المادي إلى آفاق العالم الروحي، وهنا يعجز العقل عن معرفة أبعاد هذا العالم الذي هو فوق الطبيعة، وبالتالي يعجز عن معرفة الإله الحقيقي، وهنا علينا أن نقول مع أليهو: "عند الله جلال مرهب. القدير لا ندركه. عظيم القوة والحق، وكثير البر" (أيوب 22:37-23). فمن المستحيل إدراك الإله الحقيقي بالعقل، لكن هناك ثلاث دوائر يتصف بها الإله الحقيقي:
الإله الحقيقي أزلي الوجود، أزلي الصفات، وأزلي التدبيرات وكل هذه ترتبط باللاهوت.
الإله الحقيقي أزلي الوجود
هذا يعني وجوده الأزلي الذي قال عنه موسى رجل الله: "من قبل أن تولد الجبال، أو أبدأت الأرض والمسكونة، منذ الأزل إلى الأبد أنت الله" (مزمور 2:90).
هل يمكن للعقل الإنساني أن يتصوّر الأزل؟ هل يعود إلى ملايين أو بلايين السنين؟ ليس في مقدور العقل أن يتصوّر الأزل.
الإله الحقيقي موجود منذ الأزل... وهو إله متكلّم، وإله محبّ، وهو سميع وبصير.
فهل كان هذا الإله الحقيقي، قبل خلق السماوات والأرض، والبحر، والملائكة، والبشر... في وحدة موحشة لا يتكلم إذ ليس هناك من يكلّمه، ولا يحب إذ ليس هناك من يحبه، ولا يسمع أو يبصر إذ ليس هناك من يسمعه أو يراه؟ وأنه بدأ يمارس صفاته بعد أن خلق خليقته.
هذا معناه أن هذا الإله الحقيقي ناقص في ذاته، كامل بمخلوقاته وهذا تجديف صريح.
الإله الحقيقي كامل في ذاته، مستغني بذاته عن مخلوقاته، ولذا تحتم أن يكون جامعًا في وحدانيته، وقد أعلن عن ذاته في كلمته بأنه جامع في وحدانيته، وأعلن المسيح عن هذه الوحدانية الجامعة في أمره لرسله: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 19:28). ولا يقول المسيح بأسماء بل باسم معلنًا الوحدانية في اللاهوت.
والمسيح وحده هو الذي يعرف ذات الإله الحقيقي، لأنه قال: "ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يُعلن له" (متى 27:11).
وقد أعلن يسوع المسيح أن الحياة الأبدية هي في معرفة الإله الحقيقي ويسوع المسيح المرسل منه.
إن الإيمان بوحدة الله المجرّدة، والقول بأنه "أحد" يصوّر هذا الإله في الأزل وهو في وحشة ووحدة مملّة، فهو لا يتكلم، ولا يحب، ولا يسمع، ولا يبصر، ولا يمارس صفة من صفاته. وحاشاه أن يكون كذلك.
ومع إيماننا بوحدانية الله الجامعة، فإننا نقول إنه من الخطأ أن نحاول تشبيه الله بأشياء مادية لنعرف ذاته.
فمن الخطأ أن نشبّه وحدانية الله الجامعة بالبيضة، فنقول: كما أن البيضة لها قشرة، وفيها بياض وصفار هكذا وحدانية الله.
ومن الخطأ أن نشبه الله بالماء... فنقول: إنه سائل، وبخار، وثلج متجمّد.
ومن الخطأ أن نشبه الله بالشمس... فنقول: إنها قرص، ونور وحرارة.
ومن الخطأ أن يُقال إن الله الواحد: موجود بذاته فأعلن مسمّيًا نفسه "الآب"،
ناطق بكلمته فأعلن مسمّيًا نفسه "الابن"، حي بروحه فأعلن مسمّيًا نفسه "الروح القدس".
كل هذه تشبيهات وفلسفة مرفوضة.
والرب نفسه قال: "فبمن تشبهونني فأساويه يقول القدوس؟" (إشعياء 25:40). ويقول عنه داود في صلاته: "لا مثل لك بين الآلهة يا رب" (مزمور 8:86). ويقول عنه أيضًا: "يا الله، من مثلك؟" (مزمور 19:71).
إن الطريق الوحيد لمعرفة الإله الحقيقي هو قبول إعلانه عن ذاته في كلمته، وقد أعلن أنه جامع في وحدانيته، لكن علينا أن نعرف أن الآب ليس هو الابن، ولا الابن هو الروح القدس.
الإله الحقيقي أزلي الصفات
صفات الإله الحقيقي أزلية، لا يمكن إضافة صفة جديدة إليها، ولا يمكن حذف صفة منها.
ومن صفات الإله الحقيقي العدل، والرحمة، والأبوّة وغيرها من الصفات التي تميّز بها وأعلنها لنا في الكتاب المقدس.
وسنقف هنا عند صفة الأبوّة فنقول: ما دام الله هو الآب الأزلي، تحتّم أن يكون له ابنًا أزليًا، فلا أبوّة بلا بنوّة. وإذ أعلن الكتاب المقدس أن يسوع المسيح هو ابن الله، فهذا يعني في وضوح لا غموض فيه أنه كان منذ الأزل مع الآب.
ويقدّم المسيح نفسه في سفر الأمثال قائلاً: "أنا الحكمة... لي المشورة والرأي. أنا الفهم. لي القدرة. بي تملك الملوك، وتقضي العظماء عدلاً. بي تترأّس الرؤساء والشرفاء، كل قضاة الأرض. أنا أحب الذين يحبونني، والذين يبكّرون إليّ يجدونني. عندي الغنى والكرامة. الرب قناني أول طريقه، من قَبلِ أعماله، منذ القدم. منذ الأزل مُسحت، منذ البدء، منذ أوائل الأرض" (أمثال 12:8 و14-17 و22-23). فمنذ الأزل "مُسح المسيح" ليقوم بعمل الفداء ويبشر المساكين (إشعياء 1:61-3).
وفي يوم معموديته انفتحت السماء له فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيًا وكان هذا إعلانًا عن مسحته (متى 16:3).
وكلمات سفر الأمثال تعلن لنا مدى سلطان الابن، كما تعلن لاهوته "فإنه فيه يحلّ كل ملء اللاهوت جسديًا" (كولوسي 9:2).
الإله الحقيقي أزلي التدبيرات
"معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله" (أعمال 18:15).
الإله الحقيقي لا يحكمه الزمن، فليس عنده ماضي، وحاضر، ومستقبل. الزمن من الأزل إلى الأبد حاضر أمام عينيه.
الإله الحقيقي عرف، ودبّر كل ما يريد منذ الأزل... عرف أن رئيس الشياطين المسمّى "زُهرة بنت الصبح" سوف يتمرّد ضدّه، وسيأخذ معه ثلث الملائكة (إشعياء 12:14 ورؤيا 3:12-4). وعرف أنه سيجعل خليقة ما قبل التاريخ تسقط وتخرب معها الأرض فتصير خربة وخالية (تكوين 1:1-2). وعرف أن الشيطان سيغوي حواء فتأكل من الشجرة المحرّمة ويأكل معها آدم... عرف القتل والحروب التي ستهرق فيها دماء الملايين، عرف الأعاصير التي ستغرق الكثير من بلاد العالم. عرف موت الأطفال بالملايين، عرف أنه سيهلك الناس بالطوفان في أيام نوح.
عرف الإله الحقيقي منذ الأزل كل صغيرة وكبيرة ستحدث في السماء أو على الأرض، وكل البلايا التي تحدث على الأرض من صنعه كما قال عاموس النبي: "هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟" (عاموس 6:3).
النمل، والجراد، والعنكبوت، وكل الحشرات، والفيروسات، والبكتيريا معروفة عنده منذ الأزل، وهو الذي يرسل الأوبئة، والثلوج، والأعاصير على من يشاء من سكان الأرض. هو الذي يثير الحروب ويسكّنها "مسكِّن الحروب إلى أقصى الأرض" (مزمور 9:46).
وليس من حق أحد أن يقول للإله الحقيقي ماذا تفعل؟ فهذا الإله كلي العدل وكلي الحكمة وكلي المحبة، وإله بهذه الصفات سيكون كل ما يفعله متفقًا مع صفاته.
ولأن الإله الحقيقي عرف منذ الأزل بعصيان الإنسان، دبّر في حكمته فداء الإنسان، ليعلن حبه للإنسان.
الآب أحبّ العالم... عالم الناس الذين سيؤمنون.
والابن رضي باختياره أن يخلي نفسه من مجده الأزلي ويصير في شبه الناس، ويضع نفسه ويطيع حتى الموت موت الصليب ليسدّد أجرة خطية الإنسان التي هي الموت.
والروح القدس كان مع الابن حين قدّم نفسه للآب "لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين، يقدّس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزليّ قدّم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي!" (عبرانيين 13:9-14).
فداء الإنسان بدم المسيح الكريم لم يكن تدبيرًا في الزمان، بل كان تدبيرًا أزليًا دبّره الإله الجامع في وحدانيته قبل خلق الإنسان، لأن الله عرف منذ الأزل بعصيان الإنسان، ودبّر بحكمته الفائقة خلاص وفداء الإنسان، وعن هذا قال بطرس الرسول للمختارين بمقتضى علم الله السابق: "عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلّدتموها من الآباء، بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفًا سابقًا قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم" (1بطرس 18:1-20).
"يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! لأن من عرف فكر الرب؟ أو من صار له مشيرًا؟... لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى الأبد. آمين" (رومية 33:11-36).
هذا هو الإله الحقيقي وحده، المستغني في ذاته عن مخلوقاته، يتحتّم أن يكون جامعًا في وحدانيته "الآب والابن والروح القدس"، وقد أعلن عن ذاته في الكتاب المقدس، وهو وحده أعلم بذاته، وإذا أردت أن تعرف بنفسك هذا الإله العظيم القدير، عليك أن تقرأ الكتاب المقدس، هذا الكتاب العميق في محتوياته، الذي كتبه أربعون كاتبًا، واستغرقت كتابته 1500 سنة، وتظهر وحدته المذهلة في تلاحم كل أسفاره.
كتاب استغرقت كتابته كل هذه القرون، جدير بالقراءة، والدرس، والتأمل العميق لمعرفة معانيه ومحتوياته، وجدير بأن نعتبر كل ادعاء بتحريفه جهل وغباء يُقصد بهما حرمان الناس من معرفة الإله الحقيقي، ومن معرفة عمق كنوز الكلمة المقدسة. وقد نادى بولس بهذا الإله الحقيقي في أثينا في اليونان، أمام الفلاسفة الأبيكوريين والرواقيين ومن حضر معهم من اليونانيين. والأبيكوريون هم الذين هدفهم في الحياة هو المال والاستمتاع بالملذات، والرواقيون هم الذين آمنوا بألوهية الكون Pantheism، وبضرورة ضبط النفس، وبأن اللذة ليست أمرًا حسنًا، وبأن الألم ليس شرًا. وقد نادى بولس لهؤلاء الفلاسفة بالإله الحقيقي الجامع في وحدانيته، فهو الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه، وهو لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي، وقد صنع من دم واحد كل أمة من الناس، وهو ليس بعيدًا عن كل واحد لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد، وأننا لا ينبغي أن نظنّ أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان. فاللاهوت فوق تصور عقل الإنسان وقد أقام هذا الإله يومًا للدينونة العامة؛ الديان فيه هو المسيح الذي قام من الأموات.
(أعمال 22:17-31)
وهكذا أعلن بولس لليونانيين بالروح القدس، الإله الحقيقي الخالق والديان. الآب وابنه يسوع المسيح "لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن. لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله" (يوحنا 22:5-23). هذا هو الإله الحقيقي "الآب والابن والروح القدس" إله جامع في وحدانيته التي هي فوق العقل لكنها ليست ضدّ العقل، وعقل الإنسان يقبل أن يكون 1×1×1=1 بلا مناقشة في الرياضيات مع تميّز كل واحد من هذه الآحاد.
وعلى الإنسان الذي يريد نوال الحياة الأبدية أن يعرف الإله الحقيقي الجامع في وحدانيته، وأن يرفض كبرياء العلم الكاذب الاسم، وكبرياء العقل الضال، وكبرياء المبتدعين ويؤمن بما أعلنه الله في الكتاب المقدس عن ذاته تبارك وتعالى اسمه.