آب Agust 2013
صليب المسيح كان وما زال عبر كل العصور هو فخر الكنيسة المسيحية بكل طوائفها.
قبل صلب المسيح، كان الصليب أداة موحشة مُنَفِّرة. ولكن عجبًا كيف حوّل المسيح أداة القتل والتعذيب تلك إلى رمز حبٍّ وعطاءٍ وفداء! فبعد صلبه، اعتلى الصليب بفخرٍ قباب الكنائس ومناراتها، وأخذ ملوك الأرض يزينون تيجانهم بعلامة الصليب باعتزاز.
وفي العديد من دول العالم اليوم يتصدّر الصليب أبواب صيدلياتهم ينادي للمريض: تعال، لدينا الدواء لمشكلتك؟
وهناك مجموعة من أعلام الدول التي تعتز بحضاراتها يوشِّحها الصليب. ومع بدايات القرن العشرين برز "الصليب الأحمر" كمؤسسة إنسانية عالمية لا تحدها حدود، استمدّت رسالتها الإنسانية للعون والمساعدة والبذل والعطاء من رسالة المسيح، فرفعت شعار الصليب بلون دمه كشعار للرحمة بجرحى الحروب والأسرى والسجناء السياسيين والمضطهدين، والمعذَّبين وكل المهمَّشين في الأرض.
ثم من هذا المبدأ انبثقت فيما بعد جمعيات أخرى لمختلف الشعوب والدول تحمل شعاراتٍ متنوعة تبنَّت الرسالة نفسها والهدف نفسه. فالعالم أخذ يدرِك معنى رسالة الصليب وما يوحيه الصليب من بذلٍ ورحمةٍ إنسانية للبشرية المعذَّبة. فلولا صليب المسيح ما كان لهذه الأنشطة من وجود منظَّم فاعل كما هو اليوم.
ونحن عندما ننوِّه بكلّ هذه الحيثيات، لا نقولها تعصّبًا ولا تحدِّيًا لأحد، بل نذكِّر بأن الصليب وُجِد لخير البشرية. فالصليب يعطي ولا يأخذ، صليب المسيح لا يعادي أحدًا.
لم تأتِ عقيدة الصلب من فراغ، ولا جاءت من خيال الناس لتنهي قصة حياة شخصٍ اسمه المسيح، وكإنسان لا بدّ أن يموت فقالوا: "مات مصلوبًا" وانطوت صفحته.
ولنفترض جدلاً أن الصلب لم يحدث أبدًا، عندها يبرز السؤال: كيف مات المسيح؟! أو كيف كانت نهاية حياته على الأرض؟ فإن لم يُصلب ويموت فإننا نقف أمام فراغٍ مبهمٍ في حياة أعظم عظماء التاريخ دون تفسير!؟ ولماذا يغفل الوحي عن توضيح ذلك؟
ألم يحدِّثنا الوحي عن تفاصيل ميلاده بكل دقةٍ لحظة بلحظة؟ أولم يحدثنا عن معجزاته المبهرة للعقول، وعن أقواله وتعاليمه، وعن أدقّ تفاصيل ما قام به من أعمال؟
أيعقل بعد كلّ هذا عندما تصل الأحداث إلى نهاية حياة المسيح على الأرض، يصمت الوحي ويبقى الأمر مبهمًا تتضارب حوله التأويلات والاجتهادات والتفسيرات، فلا تلتقي عند رأيٍ واحدٍ؟ أيعقل أن نعرف عن نهاية حياة أفلاطون، وامرئ القيس، وجبران خليل جبران، وموسوليني، وغيرهم، ولا نعرف عن نهاية حياة هذا العظيم الذي لم يعرف التاريخ له من نظير؟
أما الحق، فالرواية الوحيدة الواضحة التي بقيت وحدها في الميدان على مرّ الأزمان بلا منافس، وهي مبنية على علمٍ صحيح مؤيَّدٍ بالوثائق والمستندات فهي رواية الصليب كما دوّنها الوحي في إنجيل الحق.
وفوق هذا وذاك للرواية شهود كثيرون معتمدون، ومنهم قديسون مؤمنون ممّن شاهدوا الحدث بأم العين وهم بكامل وعيهم، وهؤلاء لا ينطقون عن هوى، وحاشا لله أن يضللهم في ما رأوه.
وأمه كانت هناك ومعها المجدلية وغيرها من النسوة المؤمنات يقفن معها يخفِّفن من أحزانها، وهي ترى ابنها البار معلقًا على الصليب ينزف دمًا. والأم تعرف ابنها جيدًا ومن كنّ معها يعرفنه بوضوح.
وهناك يوسف الرامي واحد من أتباعه وكان غنيًا. طلب هذا من بيلاطس أن يهتم بدفنه، وسُمح له فأخذ الجثة وحضر معه نيقوديموس، وهو كاهن يهودي سبق أن آمن سرًا بالمسيح حين التقى به ليلاً (انظر يوحنا ٣). فتعاون الاثنان على تكفين الجسد حسب عادة اليهود، وبقي الجسد بين أيديهما لساعات، وهما يعرفانه جيدًا، ثم دفناه في قبرٍ يخص يوسف الرامي تبرع به تكريمًا لسيده.
وشهود آخرون... هم الذين نادوا بصلبه. فعندما استجيبت طلبتهم، حرصوا على أن يشاهدوا تنفيذ عملية الصلب. وكان معهم الجنود الرومان الذين نفذوا العملية، وآخرون غيرهم ممّن حملتهم الأقدار أن يمرّوا في الطريق المحاذي لساحة الصلب، وآخرون غيرهم ممّن تتبّعوا الأخبار وحضروا يدفعهم حبّ الاستطلاع وشاهدوا ما جرى!
وماذا نقول في أمر توما أحد تلاميذ المسيح الملازمين له؟ فذاك لما تحقَّق بأم العين أن المسيح صُلب ومات، استولى عليه اليأس وأصيب بالعزلة ولم يعد يرغب بلقاء رفاقه من التلاميذ. وغاب عن ساحتهم!
وبعدما قام المسيح في اليوم الثالث أسرع إليه التلاميذ وأخبروه قائلين: "المسيح قام يا توما". لكن توما من شدة قناعته بصلب المسيح وموته لم يصدق خبر القيامة! فالذي طُعن في جنبه بحربة الجندي، والذي غُرست المسامير في كفَّيه وقدميه وأسلم الروح ومات، كيف يقوم؟!
ولما أصرّ عليه التلاميذ قال: "إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أومن! وكان توما حاضرًا مع التلاميذ يوم الأحد الثاني للقيامة، وكانت الأبواب مُقفَّلة بإحكام خوفًا من اليهود. ودخل المسيح عليهم فجأة بمعجزة دون أن يُفتح له باب، فقال: "سلام لكم" (يوحنا 26:20). ثم نظر إلى توما الجالس معهم وقال له: تعال يا توما وهات أصبعك والمس وتحقق من أثر المسامير، وهات يدك وضعها في جنبي!
ولما كانت المعجزة أقوى من شكوك توما، قام توما وقال له: "ربي وإلهي!" (يوحنا 28:20). فرد عليه: "لأنك رأيتني يا توما آمنت! طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (يوحنا 29:20). فأي حاكمٍ أو قاضٍ عادلٍ يمكن أن يُسقط شهادات كل هؤلاء، ويأمر بملف القضية للحفظ بإدعاء عدم توفر الأدلّة، والأدلة كثيرة؟!
قال صديقي: "نحن لا نقبل بصلب المسيح احترامًا وتقديرًا له. فالأنبياء معزّزون مكرّمون لا نرضى لهم بالضيم أو الإهانة!"
فقلت: "ألا ترى معي يا صاحبي بأن مشاعر الودّ والتقدير هذه لا تلغي ما تعرّض له الأنبياء من اضطهادٍ ومضايقاتٍ، وتهديدٍ وقتلٍ وتعذيب؟! فكم من نبيّ اعتُدي عليه فعُذِّب، أو قُتل، أو سُمِّم، والتاريخ سجّل الوقائع، والأجيال قبلت بها وصدّقتها".
فردّ صديقي: "ما تقوله صحيح!"
فقلت: "لماذا إذًا ينصبّ الاعتراض حصرًا على حادثة صلب المسيح بالذات؟ أهلْ لأنك تسمو به عن غيره من أنبياء أم ماذا؟"
فابتسم صديقي وقال: "ألا تذكر أن بطرس كبير الحواريين عندما أخبرهم المسيح بأنه سيُسلَّم لأيدي اليهود، ويُصلب احتج بطرس وعاتب المسيح رافضًا فكرة الصلب؟"
فقلت: "هل لك أن تفتح إنجيل متى، الأصحاح السادس عشر، وتقرأ وتُسمِعني رواية ما ذكرت!" فتحمّس صديقي وفتح الإنجيل وقرأ الكلمات التالية:
"من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم. فأخذه بطرس إليه قائلاً: ‘حاشاك يا رب بأن يكون لك هذا’!"
هنا توقف صديقي ونظر إليّ نظرة الغالب وقال: ألا ترى كيف اعترض بطرس على فكرة قتل المسيح مصلوبًا بأيدي اليهود؟"
فقلت: "هل لك أن تكمل القراءة حتى نهاية المشهد؟" فاستأنف القراءة فكانت الكلمات التالية: "فالتفت المسيح وقال لبطرس: ‘اذهب عني يا شيطان! أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس’".
عندها توقف صديقي عن القراءة وقال: "ننهِ الموضوع".
فقلت: "لا بل نكمله، فلن أقول لك اذهب عني يا شيطان، فأنا لست المسيح. لكن دعني أسألك: أجبني رأيك بصراحة: هل قصد المسيح حرفيًا أن بطرس شيطان في هذا الموقف؟"
فقال صديقي: "أعتقد أنه قصد أن الشيطان همس في أذن بطرس وأوحى له بأن يعارض فكرة الصلب ليثير فيه عزة النفس التي لا تقبل أن يهان سيد كريم كالمسيح".
قلت: "هل لاحظت ماذا قال له المسيح أيضًا؟"
فأجاب صديقي: "نعم، قال له: أنت لا تهتم بما لله لكن بما للناس".
فابتسمت وأنا أسمع هذا من فم صديقي وقلت: "والآن، بماذا تهتم أنت؟ بما لله الذي يؤكد حقيقة صلب المسيح أم بمن يتحاشون الصلب ويعارضونه كما حصل من بطرس؟"
فتململ صديقي مبتسمًا أمام هذه المداعبة الكلامية، وطوينا ملف الحوار بدون تعصُّبٍ أو حدّة، وإن اختلفنا في شيء فالخلاف لا يفسد في الوُدّ قضية.