تشرين الثاني November 2013
هذا الاسم لم يُطَلق على غيره من البشر، ولن يُطَلق على أحد، لأن الله واحد لا إله سواه وكلمته واحدة لا ثاني لها. وعندما أطلق الله كلمته (المسيح) ليخاطب به العالم، كانت كلمته هي الفصل في كل ما يتعلق بعلاقة الإنسان بالله!
هل فكر أحدنا في أبعاد هذه التسمية؟ ولماذا تكون "الكلمة" اسم علم يُطَلق على شخص المسيح بالذات ولا يُطَلق على غيره؟! فالكلمة لم تكن في يوم من الأيام اسم علم يطلق على الناس!
أول مرة دُعي المسيح "كلمة الله" كانت في بداية إنجيل يوحنا، حيث نطق بها الوحي هناك وأعطاها تفسيرًا يُعرّف به ويوضّح هوية من أُطلَقتْ عليه فقال: "في البدء كان ‘الكلمة’ والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله، كل شيء به (بالكلمة) كان وبغيره لم يكن شيء مما كان". ثم يقول: "والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا ورأينا مجده" (يوحنا 3:1، 14).
يُفصِح الوحي هنا عن الحقائق التالية:
أوَّلاً: كلمة الله (المسيح) أزليّ موجود قبل كل الوجود! فقد قال: "في البدء كان الكلمة،" ثم عاد وأكَّد على أزليته بقوله في المقطع نفسه: "به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان". وهذه إشارة إلى عمل الخلق، فهي به كانت وكُوِّنت وبدونه ما كانت لتكون.
ثانيًا: الله وكلمته واحد لا تفريق بينهما! فقال: "وكان الكلمة الله".
ثالثًا: "الكلمة" تجسد على الأرض بهيئة بشر! إذ قال: "والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا ورأينا مجده". فالمُتجسّد هو الله.
جاء في رسالة العبرانيين 3:1 أن المسيح هو: "بهاء مجد الله ورسم جوهره". وجاء في كولوسي 15:1 أن المسيح هو "صورة الله غير المنظور". وهو ما يتوافق مع قول المسيح عن نفسه: "من رآني فقد رأى الآب (والآب هو الله)". بمعنى، من رآني رأى الله. وقال: "أنا في الآب والآب فيّ". ولدينا هنا تساؤل مشروع يستحق الوقوف عنده والتأمل: طالما أن الله إلهٌ ناطق له كلمة، فهل كان الله يتكلم قبل أن خلق مخلوقاته من ملائكة وحيوان وإنسان، أم كان إلهًا صامتًا في أزمنة الأزل لعدم وجود من يكلِّمه، وبقي كذلك إلى أن خلق الكائنات فخرج عن صمته ومارس الكلام لأول مرة؟ وإن كان سبحانه يتكلَّم قبل أن خلق الخليقة، فمعْ من كان الله يتكلَّم في عدم وجود من يتكلم معه؟!
قد يتحاشى البعض الوصول إلى هذا المستوى من التساؤل. لكن أنْ تتساءل وتكشف عمّا في قلبك من جهلٍ أو شكّ أو حيرة أفضل من أن تُتْرَك للشكوك لتعبث بك وتزيد من حيرتك.
ونعود للتساؤل: مع من كان الله يتكلم قبل أن خلق الكائنات؟!
لا يوجد من يحل هذا اللغز سوى كتاب الله، الكتاب المقدس.
الكتاب المقدس يعلن للعالم من أولى صفحاته أن الله واحد لا إله سواه، ويكشف لنا وللعالم أن الله في جوهر وحدانيته هو آب وابن وروح قدس، إلهٌ واحد. بمعنى أن وحدانية الله وحدانية جامعة في ذات واحدة. فالأقانيم الثلاثة ليسوا ثلاثة آلهة، بل: الله وكلمته (المسيح) وروحه (الروح القدس) ربٌّ واحد.
فهو: ربّ بذاته، ناطقٌ بكلمته، حيّ بروحه. فأين الكفر في هذا؟ هذه عقيدة كل المسيحيين على اختلاف طوائفهم عبر كل العصور. وكل أقنومٍ من الأقانيم الثلاثة مميّز بعملٍ يقوم به ضمن جوهر الذات الإلهية الواحدة. وأيّ أقنومٍ من الأقانيم الثلاثة هو الله، لكنَّهم ليسوا ثلاثة آلهة. وثمة مثال توضيحي نأخذه من واقع حياتنا: الإنسان الفرد منا إنسان واحد، لكن في جوهره ثلاثة كيانات أو عناصر، سمّها ما شئت. فهو من نفس وجسد وروح، كيانات أو عناصر ثلاثة يحتويها كل فرد بشري. وكل كيانٍ من هذه الثلاثة له ضوابطه الخاصة به، ومع ذلك فالإنسان واحد غير منقسم أو متعدّد. ولا يتحقَّق وجود الفرد البشري إلا بهذه الثلاثة معًا. فالنفس والجسد والروح فينا منسجمة بعضها مع بعض في كيانٍ واحد. ونشير هنا إلى أن هذا مجرد مثال بسيط لا يقارَن بالذات الإلهية، فالله ليس كمثله شيء. إنما نعرضه هنا للتبسيط فقط، لنبيّن إمكانية وجود وحدانية واحدة تجمع في ذاتها عناصر وحدتها القائمة.
وفي البسملة المسيحية نقول: "باسم الآب والابن والروح القدس، إلهٌ واحدٌ، آمين". ولا نقول: "بأسماء الآب والابن والروح القدس". فلو كانوا ثلاثة آلهة لكانت البسملة: بأسماء الآب والابن والروح القدس.
ونعود للسؤال من جديد: مع من كان يتكلم الله في الأزل قبل أن خلق الكائنات من ملائكة وحيوان وإنسان؟!
كان الله يتكلم مع ذاته ما بين أقانيمه الثلاثة: الآب يتكلم مع الابن والابن مع الآب والروح القدس.
ولِما الغرابة؟! ألا يتكلم الواحد منا مع ذاته ويتشاور بينه وبين نفسه؟! ألا تشعر أحيانًا أن جسدك يميل إلى أمرٍ ما أو يشتهي شيئًا، وعقلك أو ضميرك في داخلك يعارضه ويكون له رأيٌ آخر!
المسيحيون لم يستثقلوا القبول بما أعلنه الله عن ذاته في ما يختص بالآب والابن والروح القدس في إلهٍ واحد. إذ يكفي أن الله قال هذا، ولا نملك إلاَّ أن نقول: آمنَّا بالله وصدق الله في ما قاله!
وفي مشهدٍ آخر ينقله لنا الأصحاح التاسع عشر من سفر الرؤيا آخر أسفار الإنجيل، يعطي مزيدًا من الإيضاح في هذا البحث. يقول الرسول يوحنا في رؤيا سماوية ظهرت له: "ثمّ رأيت السماء مفتوحة، وإذا فرسٌ أبيضٌ والجالس عليه يُدعى أمينًا وصادقًا، وبالعدل يحكم ويحارب، وعيناه كلهيبِ نارٍ، وعلى رأسه تيجانٍ كثيرة، وله اسمٌ مكتوبٌ ليس أحد يعرفه إلا هو، وهو متسربلٌ بثوبٍ مغموسٍ بدم، ويُدعى اسمه ‘كلمة الله’" (رؤيا: 11:19-12).
يا للعجب! يقول: "متسربلٌ بثوبٍ مغموسٍ بدم"، و"يُدعى اسمه ‘كلمة الله’"!
فالربط إذًا واضح ما بين مشهدٍ للمسيح المدعو "كلمة الله" وعلامة دمه الذي رشح على الصليب.
هذا هو المسيح - كلمة الله. جاء أرضنا حبًا بنا، رغم عدم استحقاقنا وتجسّد بيننا فحمل بجسده خطايانا، وفدانا متحمّلاً عنا قصاص آثامنا، وبدمه النازف على الصليب مهّد الطريق لنا ولكلِّ من يريد من كل الشعوب، لنعود إلى جنةٍ سماويةٍ أنقى وأقدس من جنةٍ خسرناها كان قد لوثها آدم بمعصيته وطُرِد منها. فجاء المسيح "كلمة الله الأخيرة للعالم" ينادي برحمته وحنانه إلى كل إنسان يهوى المصالحة مع الله ودخول الجنة فيقول له:
"أنا هو الطريق، والحق، والحياة" (يوحنا 6:14).
أنا الصراط الذي يصل بك إلى الأبدية السعيدة. تعال إليّ وأنا أريحك... قالها للجميع:
"تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". (متى 28:11)