كانون الأول December 2014
عندما كلم الله، ذو الجلال والسلطان، نبيّه موسى على جبل سيناء، وأعطاه وصايا الشريعة مكتوبة على لوحين من الحجر، انعكس سناء نوره على وجه موسى، حتى أنه جعل على وجهه برقعًا لكيلا ينظر بنو إسرائيل إلى مجد وجهه الزائل! وعندما نزل من الجبل وشرع بتدوين نصوص التوراة، بدأها بالآيات التالية:
«في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرفّ على وجه المياه. وقال الله: ليكن نور فكان نور» (تكوين 1:1-3).
ونزل يوحنا البشير من جبل التجلّي، بعد أن أبصر بهاء مجد المسيح وجلاله، فبدأ بشارته بقوله: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله (أي قول الله الخلّاق). هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان، فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه" (يوحنا 1:1-5).
فهل كان الأمر مصادفة أم أن خطة الله في الكون واحدة موحّدة فريدة ليس لها نظير؟
لقد كانت حاجة الخلق المادي إلى نور طبيعي ينير ظلمة الأرض، ولكن حاجة الخلق الروحي كانت إلى نور روحي ينير ظلام قلوب الناس التي سيطرت عليها ظلمة الفساد الذي حلّ بالطبيعة البشرية بعد سقوط أبوينا الأولين، ويا لهول ذلك الظلام!
لذلك فقد أردف يوحنا البشير قائلًا: "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًّا... ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا ونعمة فوق نعمة" (يوحنا 14:1 و16).
لقد جاء المسيح إلى أرض خيّمت عليها الظلمة، وسيطرت عليها ظلال البؤس واليأس والفساد والموت. كما جاء في نبوءة إشعياء عنه والتي تقول: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور... لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام" (إشعياء 2:9 و6).
وقد أكّد بولس الرسول بإلهام الروح هذه المقولة المزدوجة بقوله: "لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2كورنثوس 6:4). فلقد تجلّى بهاء اللاهوت وعظمته وسلطانه وساطع نوره في ناسوت ذلك الذي قال: "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يوحنا 12:8).
- ولا ينكر النور سوى الأعمى، ولا يتضايق منه إلا من كانت عيناه مريضتين... لذلك يضيف يوحنا البشير قائلًا: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً" (يوحنا 19:3).
فما أكثر الذين أحبوا الظلمة في عالمنا اليوم حيث اتسع معسكرها وكثرت جنوده جدًا! فمن ظلمة الفكر إلى ظلمة الضمير، وظلمة القلب، وظلمة المشاعر انتهاء بظلمة السلوك...
الظلمة التي فيها تنسلّ أفاعي الشر وتدبّ عقاربه وهي تنفث سمومها في كل مكان.
ظلمة يستشري فيها حب القتل والبغي والعدوان، فتستباح الديار، ويسحق الأطفال تحت ركام بيوتهم المدمرة باسم الحرية أو الديمقراطية أو الدين! ويتضاعف فيها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان فيستعبده ويذلّه، ويسيطر على جميع مقدّراته حتى لو استطاع أن يمنع عنه تنفّس الهواء لفعل بدون تردّد. وينتشر فيها فعل الرذيلة والشرور، بأنواعها القديمة والحديثة، التقليدية والمبتكرة، فتستخدم فيها وسائل التقدم العلمي والتقني والفني، التي كان يفترض فيها أن تعمل لخدمة الخير والحق والاستقامة ونشر النور والمعرفة في دياجير الظلمة، فإذا بها تستخدم للخلاعة والبذاءة والمجون.
- يحاول البعض محاربة الظلمة بدون استخدام مصدر النور.
يُحكى أن ملكًا من الملوك كان يخاف الظلام بشدة فقرر محاربته والقضاء عليه. وخرج ليلًا في غزوة وهو يقود جيشًا جرارًا يحمل أفراده المشاعل والمصابيح، وراح يفتش على الظلام فلم يجده.
- يقول مثل قديم: "أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام". وما أكثر الذين يحاولون طرد الظلام بإنارة الشموع التي ما تلبث أن تذوب أو تطفئ الرياح شعلاتها، متناسين مصدر النور الوضّاء الذي قال عنه الإنجيل: "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا 9:1-12).
ويقول بطرس الرسول: "وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ" (2بطرس 19:1).
لم تصب هذا العالم خسارة أفدح من خسارته برفضه الاستنارة بنور الرب يسوع المسيح "الله الظاهر في الجسد". ولو كان الأمر سيبقى عند هذا الحد لهان احتماله. لقد قال المسيح له المجد للذين رفضوا الاستنارة بنوره: "لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ جِئْتُ وَكَلَّمْتُهُمْ، لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ، وَأَمَّا الآنَ فَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي خَطِيَّتِهِمْ" (يوحنا 22:15).
لقد جاء المسيح – في مجيئه الأول - حملًا وديعًا ونورًا هاديًا ينير في ظلمات القلوب والنفوس طوعًا، ولكنه بحسب وعده سيأتي ثانية: أسدًا مفترسًا ونارًا حارقة لجميع الذين رفضوه ورذلوا كلامه واحتقروه.
صديقي القارئ الكريم، من أجل نفسك الغالية وأبديّتك الثمينة، إذ أن الفرصة لم تفت بعد، لكن مجيئه أصبح قريبًا وعلى الأبواب، والحكيم هو من ينتهز الفرص قبل فواتها. أدعوك لكي تقبل نور المسيح مولود بيت لحم الوديع، لكي ينير قلبك وحياتك بنوره اللطيف، فكلّمه الآن من أعماقك فيجيبك ويسبغ عليك من فيض نعمته نورًا ينير كيانك كله فيصبح عيدك عيدين وتنال رجاء الحياة الأبدية.
وكل عام وأنتم بخير ونور المسيح يملأ قلوبنا جميعًا؟