كانون الثاني - شباط Jan-Feb 2014
تحدَّى أحدُ أساتذة الجامعة تلاميذَه بسؤالٍ طرحَهُ عليهم قائلًا: هل اللهُ هو خالقُ كلِّ ما في الوجود؟ فأجاب أحد الطلبة بشجاعة: نعم. فكرَّر الأستاذ السؤال: هل اللهُ هو خالقُ كلِّ شيء؟ ردَّ الطالب نفسَه قائلًا: نعم يا سيدي الله خالقُ جميع الأشياء. وهنا قال الأستاذ: ما دام اللهُ خالقَ كلِّ شيء في هذا الوجود، إذًا فالله خلقَ الشرَّ أيضًا. وحيث أنَّ الشرَّ موجودٌ، وطبقًا للقاعدة بأنَّ أعمالنا تُظهر جوهرَنا، فإنَّنا نصلُ إلى نتيجةٍ هامة وهي "أنَّ اللهَ شرير." ومن ثمَّ راحَ الأستاذُ يتنقَّل في الصف وهو فخورٌ بنفسه، لأنَّه أثبتَ مرةً أخرى خُرافةَ الإيمان بالله.
وهنا رفع طالبٌ آخر يده وقال: هل لي أن أسألَكَ سؤالًا يا أستاذي؟ بالطبع، أجابَ الأستاذ. فوقفَ الطالبُ وسأل: هل البردُ لهُ وجود؟ فأجابَ الأستاذ: بالطبع هو موجود، ألم تشعرْ مرةً به؟ فضحِكَ باقي الطلبة استهزاءً بزميلِهِم. لكنَّ الطالبَ الشاب عقَّب قائلًا: في الحقيقة يا سيدي إنَّ البردَ ليس له وجودٌ. فَطِبقًا لقوانين الطبيعة، ما نعتبرُه نحن برْدًا هو في أصلِه غيابُ الحرارة. واستطردَ أيضًا قائلًا: كلُّ جسمٍ أو شيء يصبحُ قابلًا للدراسة عندما يكون حاملًا للطاقة أو ناقلًا لها، والحرارة هي التي تجعل شيئًا ما ناقلًا للطاقة. فالصفر المطلق هو (-460) درجة فهرنهيت، (-273) درجة مئوية وهذا يعني الغيابَ المطلق للحرارة. فالبردُ ليس له وجودٌ في ذاتِه، لكننا خَلَقنا هذا التعبير لنَصِفَ ما نشعرُ به نحن عندَ غياب الحرارة.
واستمرَّ الطالب يقول: أستاذي، هل للظلامِ وجودٌ؟ فردَّ الأستاذُ مرةً أخرى، بالطبع موجود. فقال الطالب: معذرة، ولكن للمرة الثانية أقول: هذا خطأ يا سيدي. فالظلام هو الآخَر ليس له وجود. لأنَّ الظلامَ يعني غيابَ الضوء. نحن نستطيعُ أن ندرس الضوء، ولكنَّنا لا نستطيع دراسةَ الظلام. وفي الحقيقة يمكنُنا استخدامَ منشورِ نيوتن لنفرّقَ الضوءَ الأبيض لأطيافٍ متعددةِ الألوان، ثم ندرسُ طولَ موجةِ كلّ لون. ولكنَّنا لا نقدر أن ندرس الظلام. وشعاعٌ بسيط من الضوء يمكنُه أن يخترقَ عالَمًا من الظلام وينيرَه. كيف يمكننا أن نعرف مقدارَ ظلمةِ حيّزٍ معيَّن؟ لا يمكن، لكن نستطيعُ قياس كمية الضوء الموجودة. أليس هذا صحيحًا؟ الظلمةُ إذن هي تعبيرٌ استخدمه الإنسانُ ليصفَ ما يحدث عندما لا يوجد النور.
وفي النهاية عاد الطالبُ وسأل الأستاذ وقال: سيدي، هل الشرُّ موجود؟ وهنا قال الأستاذ: بالطبع. كما سبق وقلت نحن نراهُ كلَّ يوم، وأكبرُ مثَلٍ على ذلك هو عدمُ إنسانية الإنسان تجاهَ أخيهِ الإنسان. إنَّه تعدُّد الجرائم وهو المقدارُ الوافرُ من العنف في كلِّ مكانٍ من العالم حولَنا. هذه الظواهرُ ليستْ سوى الشرِّ بعينه. وعلى هذا أجابَ الطالبُ قائلًا: الشرُّ ليس له وجودٌ يا سيدي، على الأقلِّ ليس له وجودٌ في ذاتِه. فالشرُّ ببساطةٍ هو غيابُ الله. إنَّه مثلُ الظلامِ والبرد. كلمةٌ استخدمَها الإنسان ليصف بها غيابَ الله. الله لم يَخلقِ الشر، بل الشرُّ هو النتيجة التي تحدثُ عندما لا يحفظُ الإنسانُ محبةَ الله في قلبه، إنَّه مثلُ البرد تشعر به عندما تغيبُ الحرارة، أو الظلمة التي تأتي عندما يغيبُ النور. وهنا جلس الأستاذ مذهولًا من ذكاء الطالب. لم يكن ذلك الطالبُ الشاب إلا ألبرت أينشتاين Albert Einstein .
نقرأ وعلى الصفحة الإلكترونية العديدَ من المناقشات والجدل الذي جرى مسبقًا وما زال يجري حولَ هذه الأمورِ الوجودية. ويختلف الكثيرون في كيفية تفسيرها ومناقشتها ويستمرُّ أحيانًا هذا الجدل ويأخذ حيِّزا في الانترنيت وتوابعها وتُنشرُ الرسائل أو التحاليل إما بالموافقة أو بالمناقضة. لكن، هل جلسنا نحن وفكرنا فعلًا ما هي نوعية حياتِنا التي نعيشُها يا ترى؟ وما هو مدى تأثيرها على الآخرين؟ وما هي Legacy (المتوارثات) التي سنتركها لأولادنا من بَعْدِنا؟ وما هو التُّراثُ الذي سيتمسَّكونَ به بعد أن نرحَل؟ قالتْ إحدى الصديقات: مات نلسُون مانديللا مخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا عظيمًا في رفض العنصرية والكفاح ضدَّها، وسُجن لسنينَ طويلة من أجل تحقيق ذلك الذي صارَ مبدأه في الحياة، وهكذا نقلَه إلى الأجيال التي تأتي من بعده. لكن نحن، ما هو التراث الذي سنتركُه أنا وأنت؟
يفكر البعض، لا سيَّما في أيامنا هذه التي يكثرُ فيها القتل والتدمير والقضاءُ على الآخَر المختلِف، بأنَّهم يفعلون حسنًا إذ يقضون على كلِّ مَن ليس هو مثلهم أو لا يتبنى فكرهم. فيلجأون إلى تصفية الآخر على الطريقة الهمَجية في عصرٍ يمتازُ بالتقدُّم والحضارةِ والتكنولوجيا. ونرى أنفسَنا نعود إلى شريعةِ الغاب التي تسودُ عالمَ الحيوان الذي فيه يأكلُ القويُّ الضعيف ويقضي عليه نهائيًا. وليس هذا فحسب، بل يلبَسُ هذا القويُّ قناعًا - كما يجري الآن في بلادنا - يَظهرُ فيه مدافِعًا عن الله سبحانه وتعالى. الله الذي يقول عنه بأنَّه يجاهد من أجله وفي سبيله. ويصل به المقام إلى حدِّ قطعِ الرؤوس والأطراف ويقوم بأعمالٍ وحشية مجرَّدة من كلِّ إنسانيةٍ لا يمكِنُ وصفُها إلاَّ بالشريرة، لا بل بقمةِ الشر وذروتِه.
نعم، الله غائب لذا فالشر حاضرٌ حاضر، هو الذي نراه حاصلًا. غيابُ الله من حياة الكثيرين الذين ينادون به، ويدافعون عنه، ويرفعون لواءه، ويجاهدون من أجله، ويموتون في سبيله، ويُزهقون أرواح الناس من حولهم حرصًا على اسمه وحفاظًا على شريعته. ونرى الكثيرين يتحفَّزون ويثورون وينتقمون لهذا الاسم الذي يحملونه على الرايات، بينما اللهُ بعيدٌ عنهم كل البعد، وهو منهم ومن أعمالهم بَراءْ.
نعم، ما أبعدَ أفكارَ الله عن أفكار الإنسان الذي عصى وابتعد وأضحى ضالًا قولًا، وفعلًا، وفكرًا، وروحًا، وجسدًا، ونَفْسًا. لهذا نسمع الفادي المسيح نفسه العارف القلوب يقول: "ليس كلُّ من يقول لي: يا رب، يا رب، يدخل ملكوت السماوات. كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم، يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرِّح لهم، إني لم أعرفْكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (متى 21:7-23). لكن، يا رب ، أنا الذي دافعتُ عن اسمِك، ورفعتُ لواءكَ وقتلتُ من أجلك! يأتي الجوابُ ليؤكد: اذهبْ عني لم أعرفْكَ قطُّ.
نعم، "ما أبعدَ أحكامَه عن الفحص وطرقَه عن الاستقصاء" (رومية 33:11). هذا ما هتف به يومًا بولس أحدُ الرسل الأوائل الذي تبِع هذا الطريق يومًا، ودافع عن الإله الذي ظنَّ أنَّ هذا هو بالضبط ما يريده منه. لكنَّه، عندما عرف الحق تحرَّر من القتل وصار واحدًا من أتباعِ الطريق، الطريق الذي يجلبُ الحياةَ بدل الموت، الحبَّ بدلَ الكراهية، والمسامحة والغفران بدلَ العداء والحقد. وتألَّق نجمُ الحبِّ حين ظهر هناكَ في قُبَّةِ السماء يقودُ الأممَ إلى بيت لحم، حيث تجسَّد الحبُّ الحقيقي، وحيث "التحمَ" اللهُ المحبُ بالبشرِ "التحامًا" إذ صارَ إنسانًا مثلَهم، وحيثُ ظهرَ الله في الجسد ليتواصل مع بني البشر الذين غاب وجودُه عنهم لسنين وقرون.
بولس هذا الذي اضطهد أتباعَ الطريق ظنًّا منه أنه كان على حق، اكتشف كم كان ضلالُه كبيرًا. وأزال الربُّ يسوع المسيح الغشاءَ عن عينيه حين أعلمه على طريقِ دمشق يومًا، بأنَّه باضطهاده وقتله لتابعيه، إنما هو يضطهدُه هو. عندها أنار فكرَه وقلبَه وذهنَه، فعرف الحبَّ الحق، والتواصلَ الحق، والطريقَ الحق. فكتب في رسالته الأولى إلى تيموثاوس الشاب شاهدًا:
"أنا الذي كنت قبلًا مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا، ولكنني رُحمت لأني فعلت بجهل في عدم إيمان. وتفاضلت نعمة ربنا جدًا مع الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع." (اتيموثاوس 13:1-14)
أجل، صار بولس من أتباعه المخلِصين فأحبَّ الناس، ومدَّ لهم يدَ العون، وتعرَّض للإهانات مثلَه مثلَ سيدِه، من أجل أن يصل إليهم ويخبرهم عن هذا الإله الحقيقي إله الحب الصحيح. فهل عرفنا هذا الحبَّ الحق؟ وإذا عرفناه، هل نسلكُ فيه، وهل يتجسَّد فعلًا في أفعالنا، فيراهُ أولادُنا ويتمسكون به من بعدِنا، ويحملون رايةَ الحب بدلَ الكُره. ويتبعون هذا التُراث، تراث درب السلام، السلام بين الله والإنسان، والسلام بين الإنسان ونفسه، والسلام بين الإنسان وأخيه الإنسان.
هذا هو التراث Legacy الوحيد المستَحِق أن يتركَه الإنسانُ لأولاده، وجود الله الحي الحقيقي في قلب الإنسان، الذي يشفي النفس الأثيمة ويحرِّرها من ربقة الخطية ويمنحها السلام الأكيد. وهنا يقدر أن يعيش ويتمتَّع بحضور الله العجيب في حياته الذي لن يغيبَ عنه لحظةً، لأنه يسكنُ فيه بالروح القدس ويقوده وينير دربه، ويعلّمه ويرشده إلى الحق.
حقًا من أجل مَن نعيش؟ ومن أجل مَن نموت؟ وفي سبيلِ مَن نجاهد؟ هل تراكَ عرفتَ مَن هو فعلًا؟