تموز/آب July/August 2014
قد يكون اسم يعبيص غريبًا على السمع، لكن أمه أطلقت عليه هذا الاسم لأنها ولدته بحزن، ومعنى اسمه "صانع الأحزان". لكن يعبيص لجأ إلى الله بالصلاة ليجعل من صلاته بركة للكثيرين. وصلاة يعبيص تلفت الانتباه، فمع أنها صلاة قليلة الكلمات لكنها تضمنت كل ما يحتاجه الإنسان.
وهذه صلاة يعبيص: "وَدَعَا يَعْبِيصُ إِلهَ إِسْرَائِيلَ قَائِلاً: «لَيْتَكَ تُبَارِكُنِي، وَتُوَسِّعُ تُخُومِي، وَتَكُونُ يَدُكَ مَعِي، وَتَحْفَظُنِي مِنَ الشَّرِّ حَتَّى لاَ يُتْعِبُنِي». فَآتَاهُ اللهُ بِمَا سَأَلَ" (1أخبار 10:4).
وسندرس في هذه الرسالة صلاة يعبيص في كلمتين:
أولاً: الطلبات الموجودة في صلاة يعبيص
وثانيًا: استجابة الله لصلاة يعبيص
ماذا طلب يعبيص في صلاته؟
أولاً: ليتك تباركني
ثانيًا: ليتك توسّع تخومي
ثالثًا: ليت يدك تكون معي
رابعًا: ليتك تحفظني من الشر حتى لا يتعبني.
أولاً: ليتك تباركني
البركة التي طلبها يعبيص بركة مثلثة، نلخّصها فيما يلي: ليتك تباركني ببركة الخلاص. ليتك تباركني ببركة التقديس. ليتك تباركني ببركة الملء بالروح القدس؟
البركة الأولى التي طلبها يعبيص هي بركة الخلاص، والإنسان الذي يتعامل معه الروح القدس، ويفتح عينيه فيرى فساد قلبه، يطلب أول ما يطلب بركة الخلاص.
والخلاص يعني أولاً أن الله يغفر جميع خطايا من يلجأ إليه لأجل خاطر المسيح.
والخلاص يعني ثانيًا أن الله يلد من يلجأ إليه ولادة ثانية بقوة كلمته وعمل روحه. وهذا ما عبّر عنه بولس الرسول بالكلمات: "لأَنَّنَا كُنَّا نَحْنُ أَيْضًا قَبْلاً أَغْبِيَاءَ، غَيْرَ طَائِعِينَ، ضَالِّينَ، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَوَاتٍ وَلَذَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَائِشِينَ فِي الْخُبْثِ وَالْحَسَدِ، مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا. وَلكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (تيطس 3:3-5).
والخلاص يعني ثالثًا أن الرب يسوع سيغيّر جسد المؤمن الترابي حين يأتي ثانية ليكون على صورة جسد مجده (فيلبي 20:3-21).
البركة الثانية التي طلبها يعبيص هي بركة التقديس
وكلمة التقديس معناها التكريس، والتخصيص، وكانت كلمة "قدس للرب" (خروج 36:28) توضع على عمامة رئيس الكهنة فوق جبينه إعلانًا بأنه مكرّس ومخصص للرب وخدمته، ويعبيص أراد أن تكون كل حياته مقدسة للرب، فقال في صلاته: "ليتك تباركني ببركة التقديس".
البركة الثالثة التي طلبها يعبيص - ليتك تباركني ببركة الملء بالروح القدس
كل مؤمن حقيقي يسكن فيه الروح القدس. "ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له" (رومية 9:8). وعبارة "فذلك ليس له" معناها "فذلك ليس للمسيح"، فكل مؤمن مغسول بدم المسيح يسكن فيه الروح القدس، لكن ليس كل مؤمن ممتلئًا بالروح القدس، وهذا هو السبب في ضعف حياة الكثيرين من المؤمنين.
قال الرب يسوع لتلاميذه: "لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ" (أعمال 8:1).
المؤمن غير الممتلئ بالروح القدس، لا يستطيع أن يشهد للمسيح شهادة مؤثرة.
والامتلاء بالروح القدس معناه أن يعطي المؤمن للروح القدس السيادة الكاملة على كل ينابيع حياته، وقد أوصى بولس الرسول القديسين في أفسس قائلاً: "وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ، مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ" (أفسس 18:5-19). فالمؤمن الممتلئ بالروح القدس يكلم إخوته المؤمنين بمزامير وتسابيح وقلبه ملآن على الدوام بموسيقى الترنيم للرب.
ثانيا: ليتك توسع تخومي
وكلمة "تخومي" معناها "حدود ممتلكاتي"، ويقينًا إن توسيع تخوم المؤمن الروحية أفضل من توسيع تخومه الأرضية. فما هي التخوم التي طلب يعبيص من الرب توسيعها؟
1- إنه طلب من الله القدير أن يوسّع تخوم إيمانه
والمؤمنون يحتاجون إلى توسيع تخوم إيمانهم، كما طلب الرسل من الرب قائلين: "زد إيماننا" (لوقا 5:17).
هنا علينا أن نفهم أن هناك نوعين من الإيمان: الإيمان الذي ننال به الخلاص، والإيمان الذي نعيش به حياتنا اليومية.
الإيمان الذي ننال به الخلاص يتساوى فيه جميع المؤمنين، وهو غير قابل للنقص أو الزيادة، وعنه قال بطرس الرسول: "سمعان بطرس عبد يسوع المسيح ورسوله إلى الذين نالوا معنا إيمانًا ثمينًا مساويًا لنا ببر إلهنا والمخلص يسوع المسيح" (2بطرس 1:1).
أما الإيمان الذي نعيش به حياتنا اليومية، فهو قابل للارتفاع والانخفاض، يصل إلى قمم الجبال، وينزل إلى أسافل الوديان، حسب قربنا أو بعدنا عن ينابيع الشركة مع الله، وقراءة وفهم وتطبيق كلمته على حياتنا.
قال المسيح لبطرس الذي مشى على الماء ليذهب إليه، ولما رأى الريح شديدة خاف: "يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟" (متى 29:14-31).
وهناك مثال ثانٍ لإيمان الحياة اليومية وهو مثال استفانوس الذي نقرأ عنه: "وَأَمَّا اسْتِفَانُوسُ فَإِذْ كَانَ مَمْلُوًّا إِيمَانًا وَقُوَّةً، كَانَ يَصْنَعُ عَجَائِبَ وَآيَاتٍ عَظِيمَةً فِي الشَّعْبِ" (أعمال 8:6). لقد طلب يعبيص من الرب أن يوسّع تخوم إيمانه ليصل إلى درجة المملوء إيمانًا.
2- إنه طلب من الله القدير أن يوسّع تخوم خدمته
طلب يعبيص من الرب أن يوسّع تخوم خدمته. وإذا قرأنا الكتاب المقدس بتدقيق، وفهمنا ما نقرأ، لعرفنا أن تخوم خدمة المؤمنين الممتلئين بالروح القدس هي العالم أجمع بكل لغاته وجنسياته ودياناته. وهذا ما قاله المسيح للرسل: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مرقس 16:16). وذات الأمر كرره قائلاً: اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 19:28-20).
وهذا ما قاله بولس الرسول للقديسين في كورنثوس: "إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ" (1كورنثوس 58:15). فليتنا نطلب ما طلبه يعبيص من الرب قائلين له: يا رب وسّع تخوم خدمتنا.
3- إنه طلب من الله القدير أن يوسّع تخوم محبته
إلى أي مدى يريد الرب أن يحب المؤمنون بعضهم بعضًا؟
قال الرب لتلاميذه: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ" (يوحنا 34:13-35).
العلامة المميّزة لتلاميذ المسيح هي محبتهم النقية بعضهم لبعض، المحبة التي تصل إلى درجة التضحية... تضحية المسيح بموته على الصليب.
كنائس العصر الحاضر غطتها البرودة لخلوّها من المحبة الحقيقية. فلا أحد يتألم مع العضو المتألم، ولا أحد يفرح مع العضو الفرحان. صارت مسيحيتنا "كليشهات" وكلمات نرددها ولا نقصد معناها. الوصف الذي قدمه بولس الرسول للمحبة الحقيقية هو:
"الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا" (1كورنثوس 4:13-8).
والمحبة التي قصد المسيح أن تملأ قلوب المؤمنين، عبّر عنها بكلماته: "ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يوحنا 13:15).
ليت كل مؤمن يطلب مع يعبيص: "يا رب وسع تخوم محبتي".
ثالثًا: ليت يدك تكون معي
هذه هي الطلبة الثالثة التي طلبها يعبيص "وتكون يدك معي". ونسأل يعبيص: لماذا؟ وهذه إجابته:
وتكون يدك معي لتشبعني: "أعْين الكل إياك تترجّى وأنت تعطيهم طعامهم في حينه. تفتح يدك فتشبع كلَّ حيٍّ رضى" (مزمور 15:145-16).
وتكون يدك معي لمعونتي: وهذا ما طلبه كاتب المزمور: "لتكن يدك لمعونتي، لأنني اخترت وصاياك" (مزمور 173:119). وكم نحتاج ليد الرب لمعونتنا، وخصوصًا في شيخوختنا، ولذا قال كاتب المزمور: "لا ترفضني في زمن الشيخوخة. لا تتركني عند فناء قوتي". "وأيضًا إلى الشيخوخة والشيب يا الله لا تتركني، حتى أخبر بذراعك الجيل المقبل، وبقوتك كل آت" (مزمور 9:71 و18). فالمؤمن يحتاج ليد الرب لمعونته في شيخوخته وضعفه.
وتكون يدك معي لحفظي وحراستي: قال الرب يسوع: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي" (يوحنا 27:10-29). فالمؤمنون في أمان تام في يد الرب القوي الأمين.
رابعا: ليتك تحفظني من الشر حتى لا يتعبني
هذه هي طلبة يعبيص الرابعة.
الشر يتعب الشرير ويؤثر في كل دوائر حياته. "ويل للشرير. شرّ! لأن مجازاة يديه تعمل به" (إشعياء 11:3). ولذا طلب يعبيص من الرب أن يحفظه من الشر، وكأنه يقول:
احفظني من الشر حتى لا يتعبني في ضميري
الضمير محكمة الله داخل الإنسان، ولما قال المسيح للذين أحضروا له المرأة التي أُمسكت وهي تزني: "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر... فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحدًا فواحدًا مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين" (يوحنا 7:8 و9). فالضمير يحكم على تصرفات الإنسان.
وقد طلب يعبيص أن يحفظه الرب من الشر حتى لا يتعبه في ضميره.
احفظني من الشر حتى لا يتعبني في سمعتي
وكم من عظماء لطّخ الشر سمعتهم، فذهبوا في التاريخ ملطّخين بشرهم؟
نقرأ في سفر الأمثال: "الصيت أفضل من الغنى العظيم" (أمثال 1:22).
وعندنا مثال داود الملك، الذي كان حسب قلب الرب، لكنه حين اشتهى بثشبع وقتل زوجها، أحدث هذا الفعل لطخة سوداء لصقت به. وهذا ما أعلنه الله في كلمته: "لأَنَّ دَاوُدَ عَمِلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحِدْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَوْصَاهُ بِهِ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، إِلاَّ فِي قَضِيَّةِ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ" (1ملوك 5:15). فقضية أوريا الحثي صارت لطخة سوداء شوّهت حياة داود.
احفظني من الشر حتى لا يتعبني في صحتي
وكم من أشخاص دهورت الخمور، والمخدرات، والزنى، والقباحات حياتهم فماتوا قبل وقتهم! " الشر يميت الشرير" (مزمور 21:34).
استجاب الله صلاة يعبيص "فآتاه الله بما سأل".
فليت صلاة يعبيص تكون صلاتك، وليتك ترفعها للرب بإيمان واثق ليستجيب الرب طلباتك.