يوثّقُ الكتابُ المقدّسُ أن التكبُّرَ هو أولى الخطايا التي ارتُكِبتْ في الكونِ وأَقبَحُها. وكانَ صاحبُها إبليسَ، مصدرَ الشرِّ، الذي استكْبرَ وتعالى على اللهِ، رافضًا سلطةَ اللهِ العليِّ الواحدِ عليهِ. ونحن نجدُ في كلمةِ اللهِ تصويرًا حيًّا لقلبِ إبليسَ وقراءةً لأفكارِهِ: "أَصْعَدُ إلى السّماواتِ. أَرْفَعُ كرسيَّ فوقَ كواكبِ اللهِ، وأجلسُ على جبلِ الاجتماعِ في أقاصي الشمالِ. أصْعَدُ فوقَ مرتفعاتِ السحابِ. أصيرُ مثلَ العليِّ." (إشعياء 13:14-14)
أدّتْ هذه الخطيئةُ إلى سقوطِ إبليسَ من السماءِ: "لكنّكَ انحدرتَ إلى الهاويةِ، إلى أسافلِ الجبِّ." وتحذّرُنا كلمةُ اللهِ قائلةً: قبْلَ الكَسْرِ الكبرياءُ، وقَبْلَ السقوطِ تشامخُ الروحِ." (أمثال 18:16) وهكذا، يعطي الإنسانُ المتكبّرُ، والذي خُلقَ على صورةِ اللهِ ومثالِه في الأصلِ (تكوين 27:1)، انطباعًا أنّه يريدُ أن يكونَ على صورةِ إبليسَ ومثالِهِ.
ورغمَ أن اللهَ يحبُّ البشرَ جميعًا على اختلافِ أجناسِهم وألوانِهم وانتماءاتِهم الجغرافيّةِ، والدينيّةِ، والسياسيّةِ، والاقتصاديّةِ، والفكريّةِ، والثقافيّةِ من دون تمييزٍ ("هكذا أَحَبَّ اللهُ العالمَ..." يوحنا 16:3)، إلاّ أنه يُنَصِّبُ نفسَهُ عدوًّا للمتكبّرين. إذْ يقولُ الوحيُ الإلهيُّ: "يقاومُ اللهُ المستكبرين، وأمّا المتواضعونَ فيعطيهم نعمةً." (يعقوب 6:4)
والمتكبرون أشخاصٌ متمحورون على أنفسِهم ومنشغلونَ بها إلى حدِّ أنّ أفكارَهم بعيدةٌ عن اللهِ، رغمَ أيّةِ مظاهرِ تقوى: "في تكبُّرِهِ وتشامُخِهِ لا يلتمسُ اللهَ، ولا مكانَ للهِ في أفكارِهِ كلِّها." (مزمور 4:10). والمتكبّرُ معجبٌ بنفسِهِ ومفتونٌ بأعمالِهِ وإنجازاتِهِ الدينيّةِ (وغيرِها) التي يستعرضُها أمامَ الآخرين، متناسيًا دورَ اللهِ في تمكينِهِ من إنجازِ ما يستحقُّ التقديرَ والثناءَ حقًّا. فلا ينبغي له أن يفتخرَ بشيءٍ. فاللهُ هو الذي يمدُّهُ بالقدرةِ الجسديّةِ والعقليّةِ والماليّةِ ومواردَ أخرى كالوقتِ والفرصِ التي تجعلُ كلَّ إنجازٍ ممكنًا. "وأيُّ شيءٍ لك لم تأخذْهُ؟ وإن كنتَ قد أخذتَ، فلماذا تفتخرُ كأنك لم تأخذْ؟" (1كورنثوس 7:4)
ولعلّنا نرى في نظرةِ المتكبّرِ عبادةً للذاتِ. فكلُّ ما يهمُّهُ هو ما يفعلُهُ. ويرتبطُ بهذه العقليّةِ احتقارٌ للآخرينَ. فالمتكبّرُ هو أفضلُ الناسِ، وهو الرجلُ الصالحُ الذي يتوجّبُ على اللهِ أن يُكرمَهُ! وهو غيرُ محتاجٍ إلى رحمةِ اللهِ وفضلِهِ. بل إنّه يمنُّ على اللهِ بأعمالِهِ "الصالحةِ" مع أنها لا تُعْمَلُ لوجهِ اللهِ، بل لأغراضٍ ذاتيّةٍ أنانيّةٍ. فدوافعُها لا تمجّدُ اللهَ، ولهذا فإن اللهَ لا يقْبلُها.
وعلى نقيضِ ذلك، نجدُ صورةَ يسوعَ المسيحِ مختلفةً تمامًا. فبعدَ أنْ أظْهرَ وداعتَهُ وروحَهُ الفيّاضةَ بالحبِّ واللطفِ والحنانِ والطيبةِ، قالَ لأتباعِهِ: "احملوا نِيري عليكم وتعلّموا منّي، لأنّي وديعٌ ومتواضعُ القلبِ، فتجدوا راحةً لنفوسِكم." (متى 29:11) فالتواضُع الحقيقيُّ، لا التكبُّرُ، هو صورةٌ للعظمةِ. ويَعِدُ السيّدُ المسيحُ المساكينَ بالروحِ (أي غيرَ المتكبّرين، والعارفين احتياجَهم إلى الله): "طوبى للمساكين بالروحِ، لأنّهم يرثون الأرضَ." (متّى 3:5)
ونجدُ في كلمةِ اللهِ صورةً حيّةً لتعامُلِ اللهِ مع كلٍّ من المتكبِّر والمتواضعِ في مَثَلِ الفرّيسيِّ (وهو يهوديٌّ "متديّنٌ" متشدّدٌ في التقيّدِ بالشريعةِ كما أعطاها اللهُ للنبيِّ موسى، إضافةً إلى شرائعَ أخرى فرضَها رجالُ الدينِ اليهودُ) والعشّارِ (وهو جابي ضرائبَ مكروهٌ من الشعبِ، حيثُ يَستوفي منهم عُشْرَ دَخْلِهم السنويِّ لصالحِ الرومانِ المحتلّين، إضافةً إلى مبالغَ إضافيّةٍ تَدْخُلُ جيبَهُ الخاصّةَ. وهذا المثلُ موجودٌ في الإنجيلِ حسبَ لوقا 9:18-14.
يرسمُ يسوعُ المسيحُ في هذا المثلِ صورةً لشخصينِ ذهبا إلى الهيكلِ ليصلّيا، أحدُهما فرّيسيٌّ والآخرُ عشّارٌ. نرى هنا أن الفريسيَّ بدأ يشكرُ اللهَ، لا على فضلِهِ أو رحمتِهِ أو على أيّةِ صفةٍ من صفاتِ ذاك القدّوسِ الواحدِ. لكنّهُ يشكرُهُ على إنجازاتِهِ الشخصيّةِ الخاصّةِ التي يمنُّ بها على اللهِ. وهو بهذا يشكرُ نفسَهُ، ولا علاقةَ لصلاتِهِ أو دعائِهِ باللهِ. فهو يصومُ مرّتين في الأسبوعِ، وهو أمرٌ لم تستلزمْهُ شريعةُ اللهِ، فكأنّهُ يريدُ أن يضعَ معاييرَ أعلى مما يتوقّعُه اللهُ؛ مع أن اللهَ لا يزدادُ أو يكسِبُ شيئًا بامتناعِ المرءِ عن الطعام، ولا ينقصُ أو يخسرُ شيئًا إذا أكلَ. "قُلْ لِجَمِيعِ شَعْبِ الأَرْضِ وَلِلْكَهَنَةِ قَائِلاً: ‘لَمَّا صُمْتُمْ وَنُحْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ وَالشَّهْرِ السَّابعِ، وَذلِكَ هذِهِ السَّبْعِينَ سَنَةً، فَهَلْ صُمْتُمْ صَوْمًا لِي أَنَا؟ وَلَمَّا أَكَلْتُمْ وَلَمَّا شَرِبْتُمْ، أَفَمَا كُنْتُمْ أَنْتُمُ الآكِلِينَ وَأَنْتُمُ الشَّارِبِينَ؟’" (زكريّا 5:7-6). وهو يقدّمُ عُشْرًا من دخْلِهِ للهيكلِ (مع أنّ اللهَ ليس فقيرًا محتاجًا إلى صدَقةٍ منهُ). ثم أضافَ إلى دعائِهِ إدانةً لا داعيَ لها للعشّارِ التائبِ. فالفرّيسيُّ مختلفٌ عن ذلكِ العشّارِ. وفي هذا استعلاءٌ كبيرٌ. وهكذا أدّتْ تقواهُ المزعومةُ إلى احتقارِ الآخرين.
وعلى نقيضِ ذلك، عرفَ العشّارُ أنّه يوجّهُ دعاءَهُ إلى اللهِ وحدَهُ، وأنه غيرُ مستحقٍّ أمامَه وخجِلٌ من نفسِهِ بسببِ خطاياه. فوقفَ من بعيدٍ من دونِ أن يجرؤَ على النظرِ إلى السماءِ، وقرعَ على صدرِهِ قائلًا: "ارحمْني أنا الخاطئَ."
ويختمُ يسوعُ المسيحُ المبارَكُ بقولِهِ: "إنّ هذا (أي العشّارَ) نزلَ إلى بيتِهِ مبرَّرًا (أي مقبولًا من اللهِ) دونَ ذاك (الفرّيسيِّ)، لأنّ كلَّ من يرفعُ نفسَهُ يتّضعُ، ومن يضعُ نفسَهُ يرتفعُ."
ومن المؤكّدِ أن المتكبّرَ مخدوعٌ بنفسِهِ، حيثُ لا يرى نفسَهُ على حقيقتِها. ولهذا تطلبُ كلمةُ اللهِ منّا "أن لا يرتئي فوقَ ما ينبغي أن يرتئي، بل يرتئي إلى التعقّلِ" (رومية 3:12)، فكأنَّ التكبّرَ أو الاستعلاءَ نقيضُ العقلِ والفكرِ السليمِ. فهو غيرُ مبرَّرٍ في نظرتِهِ هذه. فهو من الطينةِ البشريّةِ الفاسدةِ الميّالةِ إلى الخطيّةِ، وهو يحتاجُ، شأنُهُ في ذلك شأنُ الآخرين، إلى رحمةِ اللهِ ونعمتِهِ وغفرانِهِ. وأمّا التكبّرُ، فيعطي صورةً للانتفاخِ. وكلُّ ما هو منتفخٌ فارغٌ يبدو على غيرِ حقيقتِهِ.
ويعبِّرُ التكبّرُ عن رغبةٍ في الحصولِ على مرتبةٍ أو تقديرٍ أعلى. فالإنسانُ بصورةٍ عامّةٍ مخلوقٌ على صورةِ اللهِ ومثالِهِ، كما سبقتِ الإشارةُ. فما الذي يريدُهُ أكثرَ؟ ونحن المؤمنين بالمسيحِ أُعطينا سلطانًا أن نكونَ أولادَ اللهِ (يوحنا 12:1). فأيّةُ مرتبةٍ أعلى يمكنُ أن نطمعَ فيها؟ وسننتظرُ في الحياةِ الأخرى مجدًا عظيمًا لا يقاسُ. "الآنَ نحنُ أولادُ اللهِ، ولم يظهرْ بعدُ ماذا سنكون. ولكنْ نعلمُ أنّهُ إذا أُظهِرَ (يسوعُ المسيحُ) نكون مثلَهُ." (1يوحنا 2:3) ومن المفارقاتِ الجميلةِ أنّ ميزاتِ المؤمنِ بالمسيحِ، سواءٌ أكانَ ذلك الآنَ أم في الحياةِ الأخرى، لا تعطيهِ الحقَّ في أن يستعلي ويستكبرَ. ويكمنُ مفتاحُ الأمرِ كلِّهِ في أنّ كلَّ ما نحصلُ عليهِ من اللهِ هو بالنعمةِ لا بالاستحقاقِ الشخصيِّ، فليس مكافأةً منهُ على فضلٍ أو عملٍ. فالمسيحيّةٌ تواضعٌ من بدايتِها إلى نهايتِها.
ولعلَّ السيّد المسيحَ، ابنَ العليِّ، وهو القدّوسُ الذي يجمعُ في نفسِهِ كمالاتِ اللهِ كلَّها، هو الوحيدُ الذي يحقُّ لهُ أن يستعلي ويتكبّرَ. فالفرقُ شاسعٌ جدًّا بين الخالقِ والمخلوقِ. لكنّنا نُذهَلُ عندما نقرأُ عنهُ "الذي إذْ كانَ في صورةِ اللهِ لم يحسِبْ خُلسةً أن يكونَ معادلًا للهِ، لكنّه أخلى نفسَه آخذًا صورةَ عبدٍ صائرًا في شبهِ الناسِ. وإذْ وُجدَ في الهيئةِ كإنسانٍ وضعَ نفسَهُ وأطاعَ حتى الموتِ موتَ الصليبِ!" (فيلبي 6:2–8) ويا للمفارقةِ! فالإنسانُ الذي لا يملكُ أيَّ مؤهّلٍ للتكبُّرِ يتكبّرُ، في حينِ أنّ العالي حقًّا يتّضعُ اتّضاعًا مذهلًا! أليسَ هذا مدعاةً للاتضاعِ؟ لقد قيلَ بحقٍّ إنّ الإنسانَ المتكبّرَ لم يقابلِ المسيحَ بعدُ!