بالأمس وأنا أركض في رياضتي الصباحية، كنت أصغي إلى الكتاب المقدس المسموع على هاتفي النقّال. ففي كل يوم أستمع إما إلى سفر من الأسفار، أو نصف سفر، أو أحيانًا إلى أكثر من سفر واحد. وأعتبر هذا الأمر بركة كبيرة جدًا لحياتي الروحية إذ إنني أبدأ يومي مع الله من خلال كلمته الحيّة، المقدسة والمَرْضِيَّة.
كَلَّمَني صالله من رسالة كورنثوس الثانية فيما كنت أستمع إلى الأصحاح الثامن، فلفت انتباهي إلى عبارة بولس وهو يمدح كنائس مكدونية (تسالونيكي وغيرها) أمام كنائس أخائية (كورنثوس). فقال بولس في الأعداد الخمس الأولى من الأصحاح الثامن ما يلي:
"ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ نِعْمَةَ اللهِ الْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ، أَنَّهُ فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ، لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَةِ الَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ. وَلَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا، بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلًا لِلرَّبِّ، وَلَنَا، بِمَشِيئَةِ اللهِ."
عندما سمعت أنهم أعطوا أنفسهم أولًا للرب، ولنا، بمشيئة الله، قفز إلى ذهني بشكلٍ مباشر ما حدث مع قايين وهابيل في الأصحاح الرابع من سفر التكوين. فبعد أن قدَّمَ كلٌّ منهما تقدمته إلى الله، نقرأ في الآية الرابعة والجزء الأول من الآية الخامسة ما يلي: "وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، وَلكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ."
لِنُلاحِظ أمرًا مهمًا جدًا في هاتين الآيتين. الله ينظر إلى الشخص، ومن ثم إلى ما يقدِّمه! وليس العكس. ما هو السبب يا تُرى؟ حسنًا، أشكرك لأنك تفكر مثلي من خلال طرحك لهذا السؤال في داخلك، وأعتقد أن الله يريد أن يبدأ علاقة رائعة معنا؛ ولكي تنجح هذه العلاقة، يجب أن نخضع لبنودها وإلاّ لن تُصبِح علاقة ناجحة. فالطرف الآخر من العلاقة ليس شخصًا عاديًّا، إنه خالقنا وجابلنا وعارفٌ بكل ما في دواخلنا. لذلك، هو لا يحتاج إلى هذه العلاقة، لكن من محبتهِ لنا، يحاول أن يبدأ معنا هذه العلاقة لأن اهتمامه الوحيد هو مصلحتنا.
نحن لا نستطيع أن نُبْهِر الله بأعمالنا. فالله أعظم جدًا من كل ما نقدِّمه له. ونحن لا نستطيع أن نقدِّم أي شيء جديد إلى الله بهدف نيل رضاه، فالله هو مالك الكل، حتى نفوسَنا. وأفضل شيء نستطيع أن نقدِّمه لله، هو نفوسَنا. وهذا ما فعلته كنائس مكدونية، وهو ما ينبغي أن نَحْذُوَ حَذْوَهُ.
لقد كان هابيل يعمل ضمن خطة الله وكان يسير وفق مرسوم الله للتقرّب منه. ويتضح من خلال تقدمة هابيل المكونَّة من أبكار غنمه ومن سمانِها، أن هابيل أطاع وصية والديه التي تخص عبادة الله والتقرب منه. فبانصياعه لتعليمات الأهل، قدَّمَ هابيل نفسه لله أولًا وعبَّرَ عن ذلك من خلال تقديم أبكار غنمه ومن سمانها (أفضل ما عنده). ونرى هذا الأمر في تعامل الله مع الاثنين. فنظر الله إلى هابيل (ككيان وكشخص)، وإلى قُربانه (تقدمته)، ولكنه إلى قايين (ككيان وكشخص) وقربانه (تقدمته) لم ينظُرْ.
يقدِّم لنا العهد الجديد معلومة مهمة عن هذين الأخوين، حيث نطّلع في رسالة يوحنا الأولى على سمات وخصال مهمة جدًا في حياة الاثنين. فنقرأ في الأصحاح الثالث والعدد الثاني عشر بأن قايين كان من الشرير وأعماله كانت شريرة، بينما كان هابيل بارًّا وأعماله بارّة.
كيف نفهم أن قايين كان من الشرير؟ المقصود بالشرير هو عدو الخير، الشيطان، الحية القديمة، إبليس، التنين. فهو يعمل ضد مقاصد الله، ويحاول أن يثور ضد كل ما يقدمه الله. فالله وضع إجراءً مهمًا للإنسان الذي يريد أن يتقرّب منه (الله)، هذا الإجراء يتمثَّـل بتقديم ذبيحة حيوانية وهي تخدم كإشارة لما سوف يفعله الله في الوقت المحدد من جهة ابنه وحيده يسوع المسيح الذي قدَّمه من أجل الجميع علاجًا ناجعًا ليتخلصوا من خطاياهم، مرةً واحدةً وإلى الأبد.
يرفض قايين إجراء الله متحدِّيًا ويحاول أن يقدّم الحل البديل، الأعمال، من خلال تقديم ناتج جهوده في العمل في الأرض. لكننا نجد الله في محاولة أخيرة لربح قايين، فيشير عليه أن ينصاعَ إلى الحل الوحيد. ففي محبته العظيمة يحاول الله أن يقود قايين إلى الخضوع والانصياع، ويبادره بسؤالٍ ثلاثي الأبعاد: "لِمَاذَا اغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا."
أسئلة الله بسيطة والإجابة عنها بسيطة وتقع ضمن مقدرتنا ونطاق القوة التي منحها الله لنا للسيطرة على الوضع الذي يسمح أن نجتاز فيه، فكما نعرف أنه ليس هناك تجربة خارجة عن نطاق البشر، وهذه واحدة منها. ونجد الله الآن يقوم بتقديم المخرج لقايين من هذه التجربة. فإن أحسن قايين الاختيار، والتجأ إلى الحل الأمثل في معالجة هذا المأزق، فإنه يربح نفسه ويرفع الله وجهه الذي سقط بسبب غضبه. ونعرف بقية القصة، إذ أن قايين لم يُحْسِن الاختيار، فقتلَ أخاه هابيل، وهكذا حلَّت عليه لعنةٌ من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دمَ أخيه من يده.
لننتبه! إذ نظنّ في بعض الأحيان أن أعمالنا أهم جدًا من عبادتنا لله! الله يريدنا نحنُ، وليس أعمالنا. فهل نتمثل بهابيل؟ ولمَ لا نتمثل بكنائس مكدونية الذين قدَّموا نفوسهم لله وللمؤمنين؟