كنت قد عرضت في مقال سابق مبدأ اتخاذ المواقف في الحياة المسيحية العملية. وبدا لي في هذا البحث المقتضب أن ألمع إلى بعض المواقف التاريخية التي سجلها التاريخ بالدماء على جبهة الزمن، وتردّدت أصداؤها في جميع أنحاء العالم. وأصبحت هذه المواقف قدوة يحتذي بها جميع شهداء المسيحية على ممر العصور لأنها كانت المثل الأعلى لأروع ما جسّدته المسيحية من مناقب.
الموقف الأول: الصلاة
ففي الليلة السابقة لصلب رب المجد وفادي البشرية، ذهب المسيح مع تلاميذه إلى بستان جبل الزيتون حيث اعتاد أن يختلي بهم بين وقت وآخر. ولكن تلك الليلة كانت تختلف في أحداثها وظروفها عن أية ليلة أخرى في حياة المسيح وتلاميذه. وفي الواقع، لم يكن في تصوّر أي تلميذ إمكانية وقوع مثل تلك الأحداث، ولا سيما أنه لم يكن قد انقضى أسبوع واحد على يوم الشعانين الذي دخل فيه يسوع إلى أورشليم في موكب انتصار شعبيّ هتف فيه الصغار والكبار مرحبين به. فالشعب الذي تقاطر إلى أورشليم من مناطق مختلفة وحتى من بلدان مجاورة قد رأى في هذا الدخول الحافل صورة حيّة عن زمن مجد أورشليم الغابر كما كان في عهد داود وسليمان وسواه من بعض ملوكهم الذين اشتهروا في تاريخهم. بل اعتقد بعضهم أن هذا الداخل الآن إلى أورشليم قبل الفصح بأسبوع ليس سوى المسيح المنتظر الذي يترقّبونه لينقذهم من نير عبودية الرومان. غير أن أجواء تلك الليلة في بستان الجثسيماني كانت تختلف كليًّا عن بقية أجواء الليالي الأخرى. كانت ليلة مثقلة بالمفاجآت تحمل في طياتها آلامًا براحًا، وخيبة أملٍ، والشعور باليأس وهيمنة الخوف الرهيب.
ولم يكن في حديث المسيح إلى تلاميذه ما يولّد فيهم الرجاء الذي من شأنه أن يسمو بمعنويّاتهم، ويبثّ فيهم الجرأة والشجاعة. بل على النقيض، فكل ما نطقت به شفتا المعلم المقدستين كان ينمّ عن ألمٍ عميق، وأحداث جسام، ومخاطر مرعبة، أثارت في نفوس التلاميذ الرهبة والشقاء. وما كان ما مارسه المسيح في تلك الليلة من كسر الخبز، وشرب رشفات من الخمر، وغسل الأرجل سوى رموز بل صورة واقعية لما سيجري لهم في الأيام القادمة. فقد أطلعهم المسيح بصريح العبارة أن نهاية وجوده على الأرض قد أزفّت، وأنه لا بدّ أن يمرّ في أتون الآلام قبل أن يصعد إلى عرش ملكوته السماوي. وابتدأ الموقف الأول بالصلاة التي أعربت عن كل ما يخالج الرب يسوع المسيح من صراع نفسي وروحيّ، وفكريّ؛ فقد جاء إلى هذا العالم لغرض واحد هو أن يخلّص البشرية من مصيرها الأبدي المرعب. ولم يكن ثمن الفداء المدفوع ثمنًا رخيصًا، فالمسيح البار القدوس الذي لم يعرف خطية صار خطية من أجلنا. فالصلاة التي ارتفعت، والكأس المترعة بالموت الذي أشار إليهما في صلاته كانتا تفيضان بالآلام التي لم يختبرها أيُّ شخص آخر لأنها في ذاتها كانت تحمل أثقال الخطيئة البشرية التي تراكمت على مر الزمن. كان الموقف مذهلا حقًّا، ولكن المسيح واجهه بكل جرأة، وشجاعة، وتسليم، واضعًا نفسه بين يدي الآب السماوي ليجري مشيئته مهما كانت العواقب مفزعة.
كان المسيح واعيًا تمام الوعي لما سينزل به من قصاص بل دينونة نيابيّة عن الإنسان، ولكنه لم يتردد لحظة واحدة في تحمّل المسؤولية التي تطوّع لتحقيقها وإنجازها.
وتجلّت في الموقف الأول مظاهر الرحمة والحنان بل الغفران والعطف. فحين استلّ بطرس سيفه وقطع به أذن خادم رئيس الكهنة، أنّب المسيح بطرس على تهوّره، وتناول الأذن المقطوعة وأعادها إلى موضعها، تعبيرًا حيًّا عن قوته الإلهية في تلك اللحظة المشؤومة، إذ كان في مقدور المسيح أن يطلب اثنتي عشرة فرقة للدفاع عنه، وربما لتمحو كل الكرة الأرضية في طرفة عين. ولكنه استنكر المسيح العنف ومدّ يد العون إلى عدوّه الذي جاء ليقبض عليه ويرسله إلى الموت.
وكان أيضًا في وسع المسيح أن يختفي عن عيون أعدائه كما فعل سابقًا مع الجماهير التي أرادت أن تتوّجه ملكًا عليها، أو عن مشهد الجماهير التي حاولت أن تقتله رجمًا، وهو أمر قد أقدم عليه أكثر من مرة لأن وقته لم يكن قد حان. غير أنه الآن قد أدرك أن الساعة قد أقبلت، واللحظة التي فيها سيقف وجهًا لوجه أمام جحافل الشر قد آذنت. واستسلم المسيح لسطوة أعدائه كنعجة سيق إلى الذبح لأن تنفيذ الخطة الإلهية الأزلية قد آن أوانها. وهكذا في جبل الزيتون تجلّى موقف الصلاة والطاعة على الرغم من المخاطر التي كانت تنتظر المسيح على الصليب.
الموقف الثاني: مواجهة الظلم من غير حقد أو انتقام
قبض جنود الهيكل وأعوانهم على المسيح وجرّوه للمحاكمة أمام مجلس السنهدريم. وعلى الرغم مما تعرّض له المسيح من ضرب، وإهانة، وإذلالٍ، وتهمٍ باطلة، وعلى الرغم من تعدّي مجلس السنهدريم على شرائع المحاكمة كما نصّ عليها الباحثون، نرى المسيح بكل ما يتمتّع به من هدوء يقبل الوضع الراهن بصمت وقلَّ أن يبدر عنه ما يدافع به عن نفسه إلا فيما ندر. لقد عرف المسيح أن رؤساء الكهنة والفريسيين قد عقدوا العزم على تجريمه، وجنّدوا شهود زور لإدانته، وسعوا في سبيل القضاء عليه لأنهم رأوا فيه خطرًا يتهدّدهم، وخشوا أن يفقدوا مراكزهم، وتنهار سيطرتهم، فعمدوا على الإيقاع به؛ ولكن المسيح، على الرغم من علمه بمؤامرتهم اتّخذ موقفًا مسالمًا بعيدًا جدًا عن كل عنف أو قساوة، لأنه كان ينفّذ مشيئة أعلى من مشيئة مضطهديه. أليس هذا ما فعله الرسولين بطرس ويوحنا عندما قُبض عليهما بعد يوم الخمسين وأُمرا أن يكفَّا عن الكرازة باسم يسوع الذي صلبوه ثم قام من الأموات منتصرًا على قوات الجحيم ليملك إلى أبد الآبدين، فأجاباهم بأنه "ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس." وفي مثل هذه الحال كانا يتمثّلان بالمسيح الذي أطاع حتى الموت موت الصليب. وفي موقف الطاعة هذه عبّر عن محبة وتضحية على الرغم من المظالم التي أُوقعت به. لم يتمرّد، أو ينتقم، أو يحقد على أحدٍ بل كان ينظر إلى ما وراء الصليب، إلى مجد الخلاص الذي جاء من أجله.
وكذلك كان موقفه أمام الحاكم الروماني بيلاطس البنطي الذي كان أرأف عليه من رؤساء الكهنة والفريسيين. فقد حاول أن ينقذه من حكم الموت على الصليب بل أقرّ أمامهم وأمام الجماهير التي احتشدت أمام قصره، بأن هذا المتهم الماثل أمامه هو بريء من كل ذنب، ومع ذلك، وفي خضمّ الاتهامات، واللطم، وتتويج المسيح بإكليل من الشوك، والجلد، أبدى كل تحمّل ولم تبدر منه كلمة خاطئة واحدة، وهو القادر على كل شيء الذي "به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان."
الموقف الثالث: الغفران والرحمة
حُكم على المسيح بالموت صلبًا كالمجرمَين اللذَين كانا معه. وأخذت الجماهير التي احتشدت حوله وواكبته إلى موضع الجلجثة تستهزئ به، هؤلاء الذين كانوا لأسبوع مضى يلقون أمامه ثيابهم هاتفين بالآتي باسم الرب؛ وقد شاركهم في ذلك الكهنة والكتبة، والجنود الرومانيون، والمارة، وحتى اللصان اللذان صُلبا على جانبيه. ولكن المسيح ظلّ صامتًا، فالصليب، والصليب وحده هو سبيل خلاص الجنس البشري، ودرب الحياة إلى الأبدية. أحنى رأسه والدماء تنهمر من جراحه ورأسه، وجنبه الطعين، وأدرك أن الخاتمة أصبحت وشيكة، وأن العمل أو الفداء الذي جاء من أجله قد أُكمل. هي لحظات قصار ثم يستودع روحه بين يدَي العلي. لم يكن المسيح يفكّر بنفسه آنذاك، بل كان يشهد بروح نبوّته وألوهيته ما سيسفر عنه موته وصلبه. كان يفكر بالإنسان الخاطئ المحكوم عليه بالعذاب الأبدي، واستفاضت محبته، وملأت رؤيا الفداء حياته كلها؛ لهذا نراه عندما رفّ في مسامعه صوت اللص المصلوب عن يمينه يتوسّل إليه أن يذكره متى جاء إلى ملكوته، نظر إليه يسوع بحنان عميق وبهجة قلب، وقال له: "الحق الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس." ربما هذا اللص كان أوّل من جنى يقين الخلاص من صلب المسيح. لقد غفر له جميع ذنوبه.
ولم يتوقّف الأمر عند هذا اللص فإن المسيح في خضمّ عذابه وأوجاعه، نظر إلى الذين حوله الساخرين به ولاعنيه، وتوسّل إلى الآب السماوي قائلاً: "يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون." لقد طبّق المسيح في تلك اللحظة ما نادى به سابقًا قائلاً: "أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم..." بصورة عملية.
ألا يجدر بنا نحن المؤمنين أن نقتفي خطا سيدنا في حياتنا المسيحية العملية؟