سبقت هذه الوصية وصية أخرى تقول: "لا تقتل." ونحن نجد بين الوصيتين تماثلًا في الخطورة. فكل من هاتين الخطيتَين جلبت العديد من الويلات والمآسي على البشرية فعانى منها أفراد وعائلات وأممٌ وشعوب. كلتاهما تنمّان عن خطورة بالغة يُحْدثها من تعَدّى على حدود الله، والخطورة تكمن في أن كلًّا منهما لها علاقة مباشرة بمصير إنسان في أن يكون أو لا يكون!
فالقاتل يُنهي حياة إنسان خلقه الله ليعيش، والزاني قد يتسبَّب بولادة إنسان بغير شرع الله ويعاني، وإن لم يتسبب الزاني بذلك، يكفي أنه يُسهم بنشر ثقافة ساقطة مُهينة لكرامة الإنسان.
أقل ما يمكن أن يقال في الزّنا أنه عيبٌ ووصمة عارٍ على جبين من يسلك هذا الطريق المتدنّي. فالزاني يفتقر للكرامة الإنسانية، ولو بدا على غير ذلك. يكفي أن يقال فيه إنه يضعف أمام شهوة حيوانية يسقط تحت أقدامها ويتمرَّغ في وحلها.
أشار المسيح إلى هذه الوصية ضمن عظته على الجبل، فقال: "سمعتم أنه قيل للقدماء: [لا تزنِ،] أما أنا فأقول لكم: إن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك، فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم." (متى 27:5-29) يكفي أن نفهم من قول يسوع هذا أن الزاني مصيره جهنم.
فالمتأمِّل في عظة المسيح على الجبل يلاحظ ملامح النقلة النوعية التي سما بها المسيح بتعاليمه فوق ما ورد في شريعة التوراة، علمًا بأنْ المسيح لم يتجاوز الشريعة الموسوية ولم يُلغها، بل بنى عليها وحَسَّنَ البناء وعلاه إلى مستوىً لم يكن لأتباع التوراة أن يصلوا إليه أو يتحمَّلوه.
ففي قوله: "سمعتم أنه قيل... أما أنا فأقول" يُظهِر أنه مالك الشريعة، والآمر الناهي فيها وصاحب السلطان، شاء أن يسمو بشريعة العهد الجديد إلى مستوىً روحيٍّ وأدبيٍّ يتماشى مع قدسية رسالته التي جاء من أجلها.
ففي شريعة المس`يح، حتى النظرة الشهوانية مُدانة من الله، ومَنْ يُمارسها ويعتاد عليها يَسهُل عليه أن يسقط في حبائل شهوته عند أول تجربة إغراء يتعرَّض لها. والمشكلة في خطية الزنا أن ضحايا هذا المسلك الشائن يستدرجهم إبليس خطوة خطوة، وهم مُخدَّرون لا يشعرون بخطورة الدَّرب الذي يسلكون.
قد تبدأ أولى الخطوات نحو انحدار النفس التي يقنصها إبليس في هذا الدرب قد تبدأ بنظرة أو كلمة أو مشهد تراءى أمامها، فتُغرَس في النفس أولى بذور الشهوة نحو الطرف الآخر، ثم تتبعها نداءات ومواعيد ولقاءات مريبة، وتنازلات عن قِيَم، إلى أن يسقط الطرفان صرعى في حفرة الدنس.
سفر الأمثال سفر وحيٍ ربانيٍّ يصوِّر مشاهد من هذه المناورات نقتبس منها ما يلي:
"يا ابني، احفظ كلامي واذخر وصاياي عندك... لأني من كوة بيتي، من وراء شبَّاكي تطلّعت، فرأيت بين الجهال... غلامًا عديم الفهم، عابرًا في الشارع عند زاويتها، وصاعدًا في طريق بيتها... وإذا بامرأةٍ استقبلته في زيّ زانيةٍ، وخبيثةِّ القلب. صَخَّابة هي وجامحة. في بيتها لا تستقرّ قدماها... فأمسكته وقبَّلته. أوقحت وجهها وقالت له: "... بالديباجِّ فرشتُ سريري... هلم نرتوِ وُدًّا إلى الصباح... لأن الرجل ليس في البيت. ذهب في طريق بعيدة... أغوته بكثرة فنونها، بمَلثِ شفتيها طوَّحته. ذهب وراءها لوقته، كثورٍ يذهب إلى الذبح، أو كالغبي إلى قيد القصاص، حتى يشقَّ سهمٌ كبده، كطيرٍ يُسرع إلى الفخِّ، ولا يدري أنَّه لنفسه. والآن أيها الأبناء... لا يَمِلْ قلبك إلى طرقها، ولا تشرد في مسالكها. لأنها طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها أقوياء." (أمثال 1:7، 6-8، 10-11، 13، 16، 18، 19، 21-26)
ويقول أيضًا: "لأن شفتي المرأة الأجنبية تقطران عسلًا، وحنكها أنعم من الزيت... أبعِد طريقك عنها، ولا تقرب من باب بيتها، لئلا تعطي زهرك لآخرين، وسنينك للقاسي... فتنوح في أواخرك، عند فناء لحمك وجسمك." (أمثال 3:5، 8-9، 11)
ويقول: "لأنه بسبب امرأة زانية يفتقر المرء إلى رغيف خبز، وامرأة رجل آخر تقتنص النفس الكريمة. أيأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟ أو يمشي إنسانٌ على الجمر ولا تكتوي رجلاه؟ هكذا من يدخل على امرأة صاحبه. كل من يمسّها لا يكون بريئًا... أما الزاني بامرأة فعديم العقل... وعاره لا يُمحى." (أمثال 26:6-29، 32-33)
حذّر الإنجيل من خطيتين دعا للهروب منهما: في الأولى قال: "اهربوا من عبادة الأوثان." (1كورنثوس 14:10) ويقصد به المال الذي يأخذ مكان العبادة.
وفي الثانية قال: "اهربوا من الزنا." (1كورنثوس 18:6) وهذا ما فعله يوسف الصدّيق عندما تعرَّض لتجربة كهذه، حيث هرب ودفع ثمن هروبه فسُجِنَ، ولم ينحنِ للتجربة، وبقي شامخًا مرفوع الرأس. فكافأه الله ورفع من مقامه وجعله ثانيًا لفرعون.
في أجواء حفلات المجون وشرب الكأس أُزهقت أرواحٌ بريئة، ومن بينها يوحنا المعمدان الذي حذّر هيرودس الملك بقوله: "لا يحقّ لك أن تأخذ زوجة أخيك." وكان قد عشقها وأخذها اغتصابًا. فكسيِّد البلاد يُفترض فيه أن يكون قدوة لشعبه. فحذّره يوحنا من تصرف شائن لا يليق برجل دولة، فسجنه هيرودس ليُسْكت صوته.
وفي احتفالٍ كبيرٍ ترأّسه هيرودس بحضور عظمائه رقصت فيه ابنة هيروديا زوجة أخيه، فأُعجِب برقصها وأقسم لها أمام الحضور أن يعطيها ما تطلبه حتى نصف مملكته (متى 3:14-12).
فأسرعت الفتاة ونقلت الخبر لأمها وعادت للتوّ تطلب رأس يوحنا المعمدان على طبق! فاغتمَّ الملك، ولكن لأجل القسم أمام عظمائه وجد نفسه في حرج، فأرسل سيَّافًا وقطع رأس يوحنا وجيء به على طبق وأُعطيَ للفتاة، والفتاة قدمته لأمها!
لا يتورَّع الزاني عن ارتكاب أبشع جريمة تصل إليها يده في سبيل متعة حيوانية غير منضبطة. فبعد احتساء كأس خمر يشعر بالنشوة ويستبيح المحرمات.
جاءت مجموعة من شيوخ اليهود بامرأة إلى المسيح وقالوا ليجربوه: "هذه المرأة أُمسكت وهي تزني، وموسى أوصانا أن مثلها تُرجم. فما هو حُكمُك؟" فكان في مخيلتهم أنه لو قال برجمها يكون مخالفًا لنظام الدولة المدنية ويشتكون عليه، وإن قال أن يتركوها، يكون مخالفا لشريعة موسى فيثيرون الشعب ضدَّه! أما هو فانحنى على الأرض، وأخذ يكتب بأصبعه على التراب، ولما ألحّوا عليه انتصب وقال: "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولًا بحجر." (يوحنا 7:8) ثمَّ انحنى أيضًا ورجع يكتب.
يبدو أن جوابه أصاب مقتلًا في نفوسهم فتبكَّتوا وانسلّوا الواحد تلو الآخر، وبقيت المرأة وحدها واقفة في الوسط. ثم نهض والتفت حوله وقال للمرأة: "أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دانك أحد؟" فقالت: "لا أحد يا سيّد." فقال: "ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضًا." (يوحنا 10:8-11) فكانت كلماته خير علاج قادها للتوبة (يوحنا 7:8).
ومن السخرية أنهم أحضروا المرأة ولم يشيروا إلى الرجل شريكها في الجرم. إذ من سمات المجتمع الذكوري أن الحُكم دائمًا في حق المرأة، أما الرجل فشرفه مصون لا يُعاب!
ويذكر البشير لوقا في الأصحاح السابع من إنجيله أن امرأة في المدينة كانت خاطئة (أي مشبوهة بالزنا)، علمت أن يسوع متكئ في بيت أحد الفريسيين، فجاءت ومعها قارورة طيب، ووقفت وراءه عند قدميه وهي تبكي وتبلّ قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وتقبّل قدميه وتدهنهما بالطيب.
يرى بعض المفسرين أن هذه المرأة هي تلك التي أحضروها للمسيح ليأمر برجمها، لكنَّ حُكمَهُ العادل وقوله لها: "اذهبي ولا تخطئي أيضًا" لمس قلبها ودفعها للندامة والتوبة، فجاءت معترفة بفضله لتشكره، وعبرت عن توبتها وإيمانها بمن أنقذها. وسواء كانت هي ذاتها أو غيرها، فالعبرة واحدة:
إنسانة عاشت في الخطية وندمت وتابت، فهل يرفضها الله؟!
يقول الإنجيل: "ليكن الزواج مكرّمًا عند كل واحدٍ، والمضجع غير نجس. وأما العاهرون والزناة فسيدينهم الله." (عبرانيين 4:13)
في الزواج المسيحي طهرٌ ونقاء، وهو اتّحاد متين بين رجلٍ وامرأةٍ، يَهَبُ كلٌّ منهما الآخر قلبَه وروحَه وعواطفه قبل أن يهبه جسده. ويشارك كلٌّ منهما الآخر في حياته الفكرية والنفسية وفي آماله وأمانيه، في أفراحه وأتراحه، قبل أن يشاركه في انفعالاته الجنسية.
أما الزنا وكل اختلاط جنسي غير شرعي فهو هدرٌ للكرامة الإنسانية. وإشباع الرغبة الجنسية بإطلاقها على سجيتها الحيوانية يجرّدها من قدسيتها التي وُجِدت لأجلها، وفيها إساءة إلى الآخرين الذين يُسْتغلّون في هذا الأمر.