عندما صنع يسوع معجزة إكثار الخبز والسمك، لم يكن يسدد احتياجات الناس فقط بل كان يعلم تلاميذه دروسًا ويدرّبهم، وينمي إيمانهم وثقتهم بشخصه وبأنه هو وحده كل ما يحتاجون إليه. وبعد معجزة إشباع الخمسة آلاف قرر يسوع أنه قد آن الأوان ليعلّم تلاميذه درسًا أصعب حيث أنهم لم يستوعبوا درس إكثار الخبز والسمك. "لم يفهموا بالأرغفة إذ كانت قلوبهم غليظة." (مرقس 6:52) فأراد يسوع أن يرتقي بإيمانهم إلى مستوى أعلى وهو الثقة بأنه المسيطر على الطبيعة والقادر على حمايتهم في أخطر الظروف. وقد سجل البشير متى 20:14-32 حادثة المشي على الماء بطريقة تلقي الضوء على أسلوب يسوع في التدخّل في حياة أولاده وحمايتهم على النحو التالي:
لقد ألزم يسوع تلاميذه أن يسبقوه ويجتازوا البحيرة ريثما يصرف الجموع، فأطاعوه وأبحروا غير عالمين بما ينتظرهم من هبوب عواصف عاتية مضادة. وهذا يعلمنا أن طاعة يسوع لا تعفينا من اضطرابات الحياة وتجاربها وآلامها. وكما قال أحدهم: "إن طاعة يسوع لا تضمن لنا رحلة هادئة بل رسوًا آمنًا." وبعدما صرف يسوع الجموع مضى إلى الجبل ليصلي منفردًا. وبعد أن فرغ يسوع من الصلاة، كما يخبرنا البشير مرقس في 47:6، وقف يسوع وحده على البر يراقب السفينة المعذبة في وسط البحر، ومع ذلك لم يتدخّل فورًا بل بقي يراقب تلاميذه لساعات طوال. وهذا يعلمنا ألا نيأس في ظروفنا القاسية المضطربة لأن يسوع يرانا ويراقبنا عن كثب وهو معنا في ضيقنا.
وفي الوقت المناسب، في الهزيع الرابع، أي حوالي الساعة الثالثة فجرًا قرر يسوع أنه قد حان الوقت لإنقاذ تلاميذه. وغالبًا ما يتدخّل يسوع في حياتنا في اللحظة الأخيرة، أي لحظة اليأس البشري وفقدان الأمل من جهودنا في النجاة. يأتي يسوع في لحظة لا نتوقعها في وسط أمواج البحر وظلمة الحياة. يأتي ماشيًا على البحر (الذي يرمز في الكتاب المقدس إلى الاضطراب والخوف والظلمة، وعدم الاستقرار) ليعلّمنا أنه يتحكّم بزمام الأمور في ظروفنا وتجاربنا ويخضعها تحت سلطانه في وقته المناسب. إن حياتنا المسيحية تشبه إلى حد بعيد المشي على الماء ومواجهة هيجان البحر واضطرابه، فكل ما نحتاجه هو أن نرى يسوع معنا في الضيق والشدائد ونسمع صوته يقول: "تشجّعوا! أنا هو، لا تخافوا." إن الخوف هو العدو الأول للإنسان منذ سقوط آدم وحواء في الخطيئة وإلى الآن، لذلك يكرر الكتاب المقدس كلمة "لا تخف" حوالي 300 مرة. وكلمة "لا تخف" ليست مجرد رفع معنويات أو تشجيع عاطفي بل هي مرتبطة بكلمة "أنا هو"، أي إن الثقة بشخص يسوع، هي سر الانتصار على الخوف.
في هذا الجوّ المشحون بالخوف والرهبة يصرخ التلاميذ ظانين أن الشخص الماشي على البحر هو خيال. في هذه اللحظة يبادر بطرس (التلميذ المتسرّع والمتهوّر أحيانًا) إلى مجاوبة يسوع وكأنه يطلب إثباتًا بأنه هو يسوع فسأل أن يأمر بالنزول إلى الماء ومشاركته في المشي على البحر. من الملاحظ أن بطرس لم يكن شجاعًا فقط بل تصرّف بحكمة فطلب أمرًا من يسوع وأبدى استعداده لإطاعته. لقد تصرّف بطرس بإيمان وثقة. فهو لم يطلب وعدًا أو ضمانًا بأنه لن يغرق، بل طلب أمرًا وقوة للمشي على البحر وقد منحه يسوع ذلك. إن التركيز على شخص يسوع هو مصدر القوة والانتصار على الخوف. صحيح أنه عندما كفّ بطرس عن تركيزه على يسوع خاف وابتدأ يغرق. لكن خوفه وغرقه ليس فشلًا بل هو جزء مهم من عملية تعليمه ونموّه الروحي ونضجه. وفي الواقع، فنحن غالبًا ما نتذكّر أن يسوع هو الشخص الوحيد الذي مشى على الماء وننسى أن هناك شخصًا آخر مشى على الماء في التاريخ هو بطرس. ويجب أن نتذكر في هذه القصة عبارة مهملة هي: "فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء ليأتي إلى يسوع." لقد ذاق بطرس حلاوة أعظم اختبار في تاريخ البشرية وهو المشي على المياه وهو ما حرم منه بقية التلاميذ الأحد عشر القابعين في السفينة. فبطرس لم يفشل بل نجح في طاعة يسوع، ورغم شكه وخوفه وغرقه، إلا أنه اختبر إنقاذ يسوع له وعودته مرة أخرى ليمشي مع يسوع على الماء. لقد تعلم بطرس درسًا ثمينًا وهو: التركيز على يسوع، وإطاعة أمره، واتخاذ الخطوة الأولى.
إن المعرفة النظرية لوعود الله وشخصه وقدرته المطلقة لا تكفي للنمو في الإيمان وبناء شخصية المؤمن، بل نحتاج إلى اتخاذ الخطوة الأولى في النزول إلى المياه.
إذا أردنا المشي على الماء يجب علينا الخروج من السفينة ومشاركة يسوع.
إذا أردنا الانتصار على ظروفنا يجب أن نركز على شخص يسوع، ونخطو أولى خطوات الإيمان، فنسمو عندها فوق ظروفنا، ونلمس حضور يسوع معنا الذي يمسك زمام الأمور ونستمر سائرين معه في موكب نصرته كل حين.