من يقرأ الكتاب المقدس بذهن متفتّح يجد فيه ملخصًا لتاريخ البشرية – في أزمنة كتابة أسفاره – ممثّلة بشخصيات اختارها الوحي المقدس لتكون أمثلة للأجيال اللاحقة، بكل واقعية وصدق. فهو سجل كامل الإتقان، لا يتطرّق إليه الشك ولا يطاله الريب والبهتان. فإلى جانب كلمات الحمد وترنيمات التسبيح والتعظيم وتوسّلات التضرع والابتهال، وعبارات التواضع والانكسار، يرصد هذا الكتاب العظيم كثيرًا من الأفعال الحميدة، ولا يتغاضى عن التصرفات الشريرة، والأقوال البطّالة، وصولاً إلى عبارات التذمّر وألفاظ العتاب.
يُقال في الأمثال الشعبية: "العتاب صابون القلوب"، وقد يكون ذلك صحيحًا في المفهوم البشري، فالعتاب لغة: يعني المكاشفة وتوجيه الملامة من صديق لصديقه، على إساءة ما، وذلك درءًا للتباعد والجفاء. ومنذ بدء الخليقة ظهر ضعف الإنسان وعدم تبصُّره في إلقاء اللوم على غيره حتى على الله نفسه، حيث قال آدم لله حين سأله عن عصيانه للوصية الأولى: "المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت." (تكوين 12:3)
ولا نجد في العهد الجديد إلا قليلاً جدًا من العتاب اللطيف. فتلاميذ المسيح عاتبوه مرة كما نقرأ فيما يلي: "فحدث نوء ريح عظيم، فكانت الأمواج تضرب إلى السفينة حتى صارت تمتلئ. وكان هو في المؤخّر على وسادة نائمًا. فأيقظوه وقالوا له: يا معلّم، أما يهمّك أننا نهلك؟" (مرقس 37:4-38) ونقرأ قولاً آخر لمرثا أخت لعازر: "وأما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة. فوقفت وقالت: يا رب، أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعينني!" (لوقا 40:10)
أما في العهد القديم فهنالك الكثير من عبارات العتاب وبعضها اتصف بالشدة وإظهار المرارة القاسية.
فأبونا إبراهيم عاتب الله بقوله: "أيها السيد الرب، ماذا تعطيني وأنا ماضٍ عقيمًا، ومالك بيتي هو أليعازر الدمشقي؟" (تكوين 2:15)
أما أيوب الصدّيق فقد كان مثالاً في كثرة العتاب وشدّته. ونذكر هنا بعض تلك النصوص كقوله: "قد كرهت نفسي حياتي. أسيّب شكواي. أتكلم في مرارة نفسي قائلاً لله: لا تستذنبني. فهّمني لماذا تخاصمني! أحسنٌ عندك أن تظلم، أن ترذل عمل يديك، وتشرق على مشورة الأشرار؟" (أيوب 1:10-3) وقوله أيضًا: "أأخطأت؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس؟ لماذا جعلتني عاثورًا لنفسك حتى أكون على نفسي حِملاً؟" (أيوب 20:7) وغيرها كثير.
وقد لجأ إرميا النبي أيضًا إلى لغة العتاب حيث قال: "أبرّ أنت يا رب من أن أخاصمك. لكن أكلّمك من جهة أحكامك: لماذا تنجح طريق الأشرار؟ اطمأن كل الغادرين غدرًا!" (إرميا 1:12)
وكذلك حبقوق النبي بقوله: "حتى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع؟ أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلّص؟" (حبقوق 2:1)
وحتى في سفر المزامير، كتاب العبادة والحمد والتسبيح والابتهال، نجد عتابًا مرًّا لبني قورح حيث يقولون: "جعلتنا كالضأن أُكلاً، ذرّيتنا بين الأمم. بعتَ شعبك بغير مال، وما ربحت بثمنهم." (مزمور 11:44-12) إلى ذلك المزمور المليء بالعتاب المرّ المتواصل. ولكن الله، له كل المجد، لم يغضب ولم يعاقب هؤلاء، بل احتملهم بكل سعة صدر وأجاب على عتابهم بعد زمن طويل قائلاً: "هوذا من أجل آثامكم قد بُعتم." (إشعياء 1:50) وأيضًا: "فإنه هكذا قال الرب: مجانًا بُعتم، وبلا فضة تُفكّون." (إشعياء 3:52)
وقد يستغرب البعض أن موسى النبي الذي وُصف بأنه كان رجلاً حليمًا ولكنه تضايق وعاتب الله مرارًا ونذكر منها قوله: "لماذا أسأت إلى عبدك؟ ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليّ؟" (عدد 11:11)
ففي حياتنا الأرضية تتكاثر أسباب الشكوى والتذمّر والدوافع المتعددة لتوجيه اللوم. ولكنّ بني البشر يختلفون فيما بينهم من حيث نظرتهم إلى علاقة الله بهذه الأسباب:
يعتقد البعض أن الله قد ترك هذا العالم يتخبّط في بحر من الآلام والأحزان دون أن يهتم بما يحدث له! مشبّهين هذا العالم بفرس كانت قيادته بيد الرب ولكنه جمح وتمرّد وخرج من دائرة سلطانه، فتركه يواجه مصيره بنفسه.
يقول آخرون: إن الله لا يهمه ما يصيبنا، بل هو يفعل ما يحلو له دون اهتمام بما يشعر به بنو البشر. فيشبهونه - كما جاء في إحدى الأساطير – برجل يسير على ضفة نهر، ويقطف زهرة من هنا وأخرى من هناك فيقرنهما ثم يلقيهما إلى يمينه قائلاً: هاتان للماء ولا أبالي، ثم يعيد الكرة فيلقيهما إلى يساره قائلاً: وهاتان للنار ولا أبالي.
وفريق آخر يقول: إن ما لا نستطيع فهمه الآن سنفهمه فيما بعد عندما نتحرر من عبودية الجسد، فما علينا الآن إلا التسليم لأنه ليس من الحكمة أن نسأل عن هذه الأمور.
أما جماعة المؤمنين الحقيقيين فيقولون بكل ثقة: إن الله موجود في كل مكان، وعالم بكل شيء، وإن آلامنا وضيقاتنا لها اعتبار خاص في اهتمامه وقصده الصالح. ويشهد بذلك جميع الذين اختبروا العناية الإلهية في جميع العصور، مشيدين بصدق مواعيد الله لأولاده، ويؤكد ذلك الرب يسوع نفسه بقوله الكريم: "وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة." (متى 30:10)
لكن يبقى كثيرون من المتديّنين يرددون أسئلة متكررة في ظروف عديدة. ولا سيما عندما يرون المآسي والآلام التي تصيب البشرية، ومن هذه الأسئلة:
إذا كان الله محبًّا للبشر، فلماذا لا يرفع هذه الآلام؟ وإذا كان عادلاً فكيف يسمح بعذاب أطفال أبرياء؟ وإذا كان حكيمًا فما الحكمة في كل هذا؟
إن أيسر ما يقوله هؤلاء لله هو: "يا رب، أما تبالي؟" وإن كان البعض لا يفصحون عنه بلسان المقال فهم يقولونه بلسان الحال.
إن أسباب هذه المشاعر ودوافع تلك الشكوى تتلخص فيما يلي:
1- التقلقل والاضطراب: فالنفس المرة المضطربة تنظر دائمًا إلى النصف الفارغ من الكأس، وتبقى غير راضية بنصيبها وغير مستقرة في إيمانها كما يقول يعقوب الرسول: "رجل ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه." (يعقوب 8:1)
2- حيرة الألباب: تحار عقول الكثيرين حينما يرون الأوضاع التي يجتاز فيها هذا العالم، من انقلاب لأعمدة القيم، والأمراض الفتاكة، وأحداث الطبيعة، الأمور التي عجز العالم عن إيجاد حلول لها ووقفت الحكمة البشرية ذاهلة أمامها، وفشلت المؤتمرات والمنظمات الأممية في علاجها. فلا بدّ إذًا لعقولهم الحائرة من أن ترسوَ على رأي؟
3- عدم الاستيعاب: حيث أنه من العسير على الكثيرين في هذا العالم استيعاب المبادئ الرئيسة التي رسخها الله في الكون وأهمها هذه الثلاثية: أ) سلطان الله المطلق. ب) حرية الإنسان الكاملة "أدبيًا" – حيث أن هناك حريّات تحكمها النظم الدولية والوطنية والاجتماعية. ج) مبدأ الزرع والحصاد. وهذه الثلاثية تعمل معًا بشكل متلازم. فعصيان وصايا الله يحصد ثماره المرّة الشخص نفسه فيقع تحت دينونة الله العادلة. أما الشرور والأعمال التي تقوم بها الأمم والدول والجماعات، فتحصد ثمارها الكارثية البشرية بكاملها كالتسبّب في إفساد البيئة وغيرها كالحروب، والاعتداءات التي يثيرها روح الشر المسيطر في العالم.
4- تأخّر الجواب: لقد مضت حوالي خمس عشرة سنة على وعد الله لإبراهيم بقوله: "فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظّم اسمك، وتكون بركة." (تكوين 3:12) فنفذ صبره وعاتب الله الذي لم يعطه النسب الموعود، رغم مرور الوقت وتضاؤل الفرص.
ومضت مدة لا نعلم مقدارها على تجربة أيوب، وقد تضرّع إلى الله مرارًا لإنقاذه، ولكن الجواب تأخّر عليه، فانطلق لسانه بعبارات العتاب.
والأعمّ من هذه الأسباب جميعها هو جوهر الإيمان ومرتكزاته: فقد كان أتقياء العهد القديم ينظرون إلى بركات الله على أنها أرضية زمنية، سواءً أكانت مادية أو معنوية: كالصحة والغنى والبنين والنصرة والحماية، فكان افتقادهم لها أو عدم تحقيقها يشير إلى عدم رضى الله.
أما في العهد الجديد فقد تغيّر الجوهر حيث رفع الرب يسوع أنظار المؤمنين به إلى الأمجاد السماوية. لقد عاتب التلاميذ الرب مرة قبل حلول الروح القدس عليهم، إذ كان إيمانهم ما زال متأثّرًا برواسب خلفيتهم اليهودية. أما فيما بعد فقد سما إيمانهم بحيث صاروا يحسبون الأمور المنظورة ليست شيئًا ذا قيمة. فإستفانوس الشهيد الأول، حين همّ اليهود برجمه، يقول الكتاب: "وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس، فرأى مجد الله، ويسوع قائمًا عن يمين الله." (أعمال 55:7) وحين كان يُرجم طلب الغفران لقاتليه. وبالنسبة لبولس الرسول ورفيقه سيلا رغم اعتداء الولاة في فيلبي عليهما وضربهما بالعصي وسجنهما مع ضبط أرجلهما بالمقطرة، يقول الكتاب: "ونحو نصف الليل كان بولس وسيلا يصليان ويسبحان الله، والمسجونون يسمعونهما." (أعمال 25:16) وتلاميذ الرب يسوع جميعهم ماتوا شهداء حيث قُتلوا بطرق وحشية مختلفة ما عدا يوحنا الذي سُجن في جزيرة بطمس، ولم يُذكر عن أحدهم أنه تذمّر أو عاتب الرب.
أيها القارئ الكريم، يجدر بنا نحن جميعًا أن نتشبّه بهؤلاء الأبطال، ونجعل ثقتنا بالرب ومراحمه ثابتة لا تتزعزع. فطوبى لجميع المتوكلين عليه.