يقول الرسول بولس في الوحي المقدس: "وأما من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم."
يقول أعداء المسيحية إن الصليب حادثة وهمية وبدعة تكفيرية إن دلت على شيء إنما تدل على جهالة من يؤمنون به. لهؤلاء أقول: "فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، أما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله."
قرأت ما كتبه أحد القديسين عن الفداء فقال: لو أن المسيح، له كل المجد، بعد تجسده وفي خدمته قام بعمل المعجزات من كل نوع؛ شفى المرضى، وأقام الموتى، وطهّر البرص، وفتح أعين العميان، وأشبع الجياع، وصعد بعد ذلك إلى السماء لما كان لنا فداء.
أضيف على كلامه، لو أن المسيح بعد أن سُمّر على الصليب طلب جيشًا من الملائكة للقضاء على صالبيه ونزل عن الصليب لما كان لنا فداء ولا كفارة.
ولكن، لأن الرب يسوع تجسد من أجل هذا الغرض، أكمل الفداء، وظهر ذلك من كلمته السادسة على الصليب "قد أُكمِل!"
تعجبني كلمات من ترنيمة تقول:
لك مجد للأبد يا يسوع ربنا قد حملت في الجسد إثمنا وحكمنا
مت عنا يا حبيب حامل الحكم الرهيب ذاك حكمنا وقد أكمل على الصليب
وسأضع أمام حضرات القراء الأعزاء أربعة أمور:
أولاً- انتصار
ظن الناس الذين عاينوا عملية صلب المسيح أن المسيح قد هُزم في الصليب ولكن الحقيقة هي غير ذلك. فالمسيح على الصليب حقق انتصارات عديدة أخص منها اثنتين:
1- انتصر على العدوّ العنيد، الشيطان
اضطرب الشيطان عندما بشر الملاك الرعاة بولادة مخلص جميع الناس، وحقد عندما انتصر المسيح عليه في تجاربه الثلاث، وتمنى موت المسيح عندما نجحت كرازته وخلَّصَ كثيرين من قبضته. لقد أفعم الشيطان قلوب رؤساء الدين بالكراهية والحقد في قلوب رؤساء الدين حتى قرروا قتله. ودخل في قلب يهوذا فسلّمه لأعدائه. وكم كان فرح الشيطان شديدًا عندما صدر في حقّه حُكم الموت، وفرح بإطلاق باراباس. شمت عندما وضعوا إكليلاً من الشوك على رأسه، ثم جلدوه وحمّلوه الصليب، وبلغ سروره أشده عندما عُلق على الصليب، وتنفس الصعداء بعد أن أسلم الروح.
لم يكن يدري أن آلام المسيح هي أكبر هزيمة للشيطان. "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس." إن الصليب أكبر شاهد ودليل على قصور الشيطان وعجزه. لم يدم فرح الشيطان أكثر من ثلاثة أيام بعدها قام المسيح من الأموات.
2- انتصر على العداوة بالحب الشديد: أول كلمة نطق بها المسيح على الصليب: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون." وقف المسيح موقف المحامي والمدافع عن صالبيه وأوجد لهم حجة وعذرًا وهي "لا يعلمون ماذا يفعلون." قال أحد القديسين: إن مجازاة الخير بالشر عمل شيطاني ومجازاة الشر بالشر عمل وحشي، ومجازاة الخير بالخير عمل إنساني. أما مجازاة الشر بالخير فهو عمل إلهي لا يستطيع فعله إلا الله، وأولئك الذين بإيمانهم به أعطاهم طبيعته الإلهية.
ثانيًا: إظهار
أظهر الصليب عدة أمور اكتفى بذكر ثلاثة منها:
1- النعمة الغنية: ظهرت نعمة الله في الصليب. لم يكن الله الآب مضطرًا أن يدبر ذبيحة كفارية، ولم يكن الابن مجبرًا أن يتجسد ويقوم بعمل الفداء، ولكن النعمة الغنية هي التي جعلت الآب يدبّر ذبيحة كفارية، والابن يقبل أن يكون هو الذبيحة. قال الرسول بولس: "قد ظهرت نعمة الله المخلصة، لجميع الناس." النعمة هي علة الفداء.
2- القلوب الحجرية: عندما شاهدت الفيلم The passions of Christ لم أقوَ على احتمال رؤية مشاهد الآلام التي صورها مخرج الفيلم فانهمرت الدموع من عيني، ومع أني أعلم أن الآلام التي صورها الفيلم لا تعادل شيئًا أمام الآلام الحقيقية، قلت: يا لقساوة القلوب! ما هذا يا إلهي؟ قدّت قلوبهم من صخور؟ عرفت وقتها لماذا قال داود "فلنسقط في يد الرب، لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان."
3- الطاعة الكلية: طاعة المسيح للآب. لقد نفذ كل مطاليب العدل الإلهي من كل جوانبها. أعلن المسيح عن طاعته في بستان جثسيماني بالقول: "إن لم يُمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك." وتحدث الرسول بولس عن هذه الطاعة فقال: "الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب."
ثالثًا: افتخار
كان الصليب قبل أن يصلب عليه الرب يسوع أداة تحقير وإذلال وهوان وعار، ولكن بعد صلب المسيح أصبح الصليب منصة للشرف والكرامة. لذلك نراه في أعلام بعض الدول، وعلى تيجان الملوك والمنائر، وصار شعارًا للنجدة والإغاثة. قال بولس: "أما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح." لماذا؟
1- لأنه أساس الغفران: "الذي فيه لنا الفداء بدمه، غفران الخطايا." "الذي أحبنا وقد غسّلنا من خطايانا بدمه." "ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية." الغفران ليس أساسه مقدار وكمية الدموع التي نزلت من عيوننا عند توبتنا وليس لأي شيء آخر إلا صليب المسيح.
2- سرّ الأمان: "متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح." وهؤلاء الذين تبرروا بالإيمان لهم "سلام مع الله بربنا يسوع المسيح." سمعت اثنين يتكلمان معًا في ليلة مظلمة قبل أن تدخل الكهرباء. قال أحدهما: أنا أخاف من الظلام لما أكون لوحدي. فقال له الآخر: أنا كنت كده، بس دلوقتي أنا ما بخاف. قال: عملت إيه؟ فأجابه: باقول باسم الصليب فيتبدد الخوف تمامًا.
3- رافع الأضغان: الصليب أزال الأحقاد والأضغان.
بصلاة المسيح من أجل صالبيه "اغفر لهم"، وما صلاة استفانوس إلا ثمرة من ثمار الصليب.
4- لأنه حل المشاكل بين الله والإنسان: في الصليب تم الصلح بين الله والإنسان. قال أيوب في القديم: "ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا." "لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالأولى كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته." "أي إن الله كان في المسيح (المصلوب) مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة."
رابعًا: انتشار
عن طريق الصليب انتشرت المسيحية في كل ربوع العالم. ونلاحظ أن الكرازة الناجحة هي التي تتضمن الحديث عن الصليب والقيامة. كرز بطرس بالمسيح المصلوب والمقام فخلص 3000 نفس. خلص كل الموجودين في بيت كرنيليوس بالكرازة بالصليب.
اختم رسالتي بالقول: إن الرب يسوع تبارك اسمه سدد عني كل الديون "محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدًا لنا، وقد رفعه من الوسط مسمّرًا إياه بالصليب."
فيجب أن نحبه من كل القلب والنفس والقدرة والفكر. هو الذي سدد ديوني التي كنت أعجز عن الإيفاء بها، لهذا لا بد أن أكون له مواليًا ومتجندًا طول حياتي.