في احتفال وداع الراحل القس الدكتور إميل أنطون، شارك أحد رجال الله المباركين بكلمة رائعة ومسّ عقلي وقلبي ونفسي بقوله: إن يسوع كإنسان حقق خطة الله بأن: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا." خلق الله آدم على صورته، إلا أنه شوّهها وأفسدها بعصيانه. ثم أرسل الله ابنه إنسانًا على صورة الله حقًا وعدلاً. أصاب وأفاد. وهذا بعض ما عناه يسوع حين قال: "أنا في الآب والآب فيّ. الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال. صدقوني أني في الآب والآب فيّ." (يوحنا 10:14-11)
ونحن نصدقه فهو الله المتجسد، وكل ما قاله وكل ما عمله هو قول الله وعمل الله. علاقة خاصة متميّزة، يقول الله الآب عن الابن:
أنت ابني الحبيب، بك سررت." (لوقا 22:3) وفي جثسيماني يصلي يسوع:
"يا أبا الآب." نداء خاص متفرد يخرج من قلب منكسر متوجع موجه من ابن يدرك مكانته عند أبيه في خصوصية وحميمية وهو يزفر ما بداخله لأقرب وأعزّ أب. يا أبا الآب، التي تعني "بابا". نداء تتجمع فيه كل عواطف البنوّة والأبوّة ممتزجة بالتبجيل والاحترام والتقدير. نداء من الابن الحبيب للآب العظيم القادر الحنون. علاقة ووحدانية لا مثيل لها. تطابق وتوحّد وتكامل معًا. لا يمكن فصل الواحد عن الآخر أو تمييز الواحد عن الآخر. الآب في الابن والابن في الآب.
***********
وإتمامًا لقصد الله في علاقته بالإنسان جاء يسوع إلى أرضنا إنسانًا وعاش حياة إنسانية لكن بلا خطية، وسدد مطالب عدالة الله ودفع دمه ليفدي الإنسان ويبرره ويعيد صورته لتكون على صورة الله وشبهه. "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه. الذين وُلدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله." (يوحنا 12:1-13) "لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية." (يوحنا 16:3) واتسعت معادلة الوحدانية لتشمل الإنسان المؤمن. وعادت الصورة المشوّهة إلى شكلها الأول: صورة الله وشبهه. ولتثبت هذه الصورة وتدوم أرسل المعزي، الروح القدس، الذي جاء من الآب باسم الابن، الذي يسكن في المؤمن، يعلّم ويرشد ويعزي ويطهر ويصون صورة الله وشبهه فيه، ويعمل له الأعمال التي كان يعملها الابن وهو على الأرض. واكتملت الصورة في الوحدة المعجزية الخارقة بين الآب والابن والإنسان. في صلاته لأجل المؤمنين به طلب أن:
يكونوا واحدًا. كما أنك أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني." (يوحنا 21:17) ويشمل هذا التواجد ألفة ومودة وصداقة ومحبة يزيد ويصون ويحافظ على هذ الوحدة الثلاثية النادرة المتميّزة. لهذا يضيف على ذلك فيقول:
"ليؤمن العالم أنك أرسلتني. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكمّلين إلى واحد." ثم يختم صلاته معلنًا
"عرّفتهم اسمك وسأعرّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتهم به، وأكون أنا فيهم."
**********
محبة الله الآب للابن أزلية أبدية. يسوع يقول ويصرح ويعلن: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم." يسوع كائن قبل تأسيس العالم وقبل كون العالم. وهو ممجّد منذ ذلك الحين. "والآن مجّدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم."
يسوع يريد أن نكون متوحّدين معه في المجد الذي تمجّد به قبل كون العالم، وفي الحب الذي أحبه الآب به قبل أن يكون كل ما كان. الحب يمتدّ وينتشر ويتموّج في دوائر كتلك التي تحدث حين تلقي بحجر في مياه راكدة ساكنة فيترقرق الموج ويتّسع حتى يشمل مساخة بعيدة في الماء. هكذا الحب يخرج من الله الآب إلى يسوع الابن إلى المؤمنين، إليك وإليّ، إلى التلاميذ، إلى مريم ومرثا، إلى المرأة السامرية وإلى زكا العشار. حب لا يتوقّف ولا يتباطأ. حب لا ينتهي ولا ينضب. حب لا يضعف ولا يخبو. حبٌّ لا يكلّ ولا يتعب. حبٌّ حيٌّ لا يموت. حب خالد دائم قوي عفيّ. هذا هو الحب الذي أوصى به يسوع تابعيه حين قال:
وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا، كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًأ بعضكم بعضًا. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حب بعضًا لبعض." (يوحنا 34:3-35).
هذه الوصية الجديدة تسمو وتعلو وتنسخ جميع الوصايا فلا نحتاج لوصايا أخرى. لو أصبح هذا الحب مركزًا للكون لما كان هناك صراع ولا حقد ولا خوف ولا حروب ولا انقسامات في العالم. الحب أخذٌ وعطاء، الحب طريق مزدوج ذهاب وإياب نحَبّ ونحبّ. الحب مشاركة ومبادلة، الحب رفقة وألفة. الحب ليس فيه استقلالية بل اندماج وتوحد بين المحب والمحبوب. "المحبة لا تسقط أبدًا. الآن يثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة."
**********
تزوجا بالأسلوب التقليدي القديم. ورشحتها عائلته له فتقدم بطلبها للزواج ولم تستطع أن تعترض أو تقاوم ضغط والديها. رغم أنهما لن تكن لديهما الفرصة ليعرفا بعضهما بعضًا لكنه أحبها بكل قلبه، أما هي فلم تقابل حبه بالمثل وعاشت معه متباعدة متحفظة ومتكلفة. مرت السنوات – عشر سنوات – وهو يغدق عليها كل حبه وهي بعيدة تتقبل دون أن تجاوب حتى وجد خطابًا منها في جيبه تقول فيه:
قابلت محبتك القوية بجفاء كل هذه السنوات التي حاولت خلالها أن أبادلك حبك المستمر وأتواصل معك فلم أستطع. كنت محصورة بذاتي فاحتقرت ذلك الحب العظيم الذي استطاع أخيرًا أن يحطم الأسوار التي بنيتها حول نفسي. أعذرني. أنا أحبك."
المحبة تتأنى وترفق، ولا تطلب ما لنفسها. المحبة لا تسقط أبدًا."
يسوع جاء إلى العالم ليعيد العلاقة والوحدة بين الله والإنسان.