ما هو الذهن؟
عندما خلق الله الإنسان، أراده كائنًا متميّزًا؛ يفكّر، ويفهم، ويستنتج، ويعرف، ويدرك، ويقدّر العواقب، ويتّخذ القرار، ويكون مسؤولاً عنه. لذلك أعطاه القدرات التي تمكّنه من ذلك. فقد خلقه روحًا ونفسًا وجسدًا (1تسالونيكي 23:5). ونفهم من الكتاب أن الروح هي مركز المعرفة والإدراك في الإنسان «لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟» (1كورنثوس 11:2) وإن كانت الروح الإنسانية هي أول وأهم مراكز المعرفة في الإنسان، فالذهن، أو العقل، هو الوسيلة التي تستخدمها الروح للقيام بهذه العمليات، سواء بالتفكير بما يصل إليه أو استيعابه، أو استخلاص النتائج المترتبة عن هذه المعارف.
هذا الجزء في تركيب الإنسان هو الذي يربطه بالله، لأن «الله روح» (يوحنا 24:4). وعندما نفخ في أنف آدم نسمة حياة، وضع فيه شيئًا منه لكي يشبهه. هذا الشيء هو الروح، بما فيها من إدراك وفهم «في الناس روحًا ونسمة القدير تعقّلهم [تعطيهم فهمًا].» (أيوب 8:32) وأرجو ملاحظة أن كلمات: ذهن، وعقل، وفكر، وفهم، ومعرفة، ترد كلّها في الكتاب المقدس وقد تحمل معاني مختلفة، وأحيانًا مترادفة؛ كما ترتبط بها ألفاظ أخرى كمثل: تعقّل، وصحو، وذكاء، وغباء، وحكمة، وحماقة، وجهل، متوقّفة على حسن أو سوء استخدام هذه الإمكانيات.
والروح، والإمكانيات العقلية عند الإنسان، هي التي تميّزه عن الحيوان. فالحيوان يتكوّن من جسد ونفس فقط، وإمكانيات المعرفة عنده محدودة، «إنسان في كرامة ولا يفهم يشبه البهائم التي تباد.» (مزمور 20:49) أيضًا عندما تكبّر نبوخذنصر وارتفع قلبه، حكم الله عليه أن يصير مثل الحيوان ويأكل العشب كالثيران، ونفّذ ذلك بأن نزع عنه عقله. وعندما أراد الله أن يرجعه إلى عالم البشر بعد تنفيذ الحكم، يقول هو عن نفسه «عند انتهاء الأيام، أنا نبوخذنصر، رفعت عيني إلى السماء؛ فرجع إليّ عقلي.» (دانيآل 34:4) وعندما رجع إليه عقله، عاد مرة أخرى إنسانًا.
ماذا فعلت الخطية بذهن الإنسان؟
نجح الشيطان في الجنة في التشويش على ذهن حواء «كما خدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تفسد أذهانكم.» (2كورنثوس 3:11) وعندما تجاوبت معها، تسرّبت إليها الأفكار الخاطئة عن الله؛ فصدّقت المرأة كلام الحية وكذّبت الله؛ عندئذ دخلت الخطية، التي ملأت قلب الإنسان بميول ورغبات كثيرة خدمة لشهواته. هذه الميول تفرض نفسها على ذهن الإنسان ليفكّر في تنفيذها. وأصبحت هي الأمور التي تلمع أمام ذهن الإنسان الطبيعي وتجذبه ليسير وراءها. وهذا هو الذي جعل المرأة ترى الشجرة جذّابة جدًا أمام عينيها. فغلب لمعان الشجرة وبريقها أمام عيني حواء، وأمام ذهنها، على التحذير من الموت في حالة الأكل منها. فابتعدت فكرة العقاب عن الذهن، ولمعت حلاوة الشجرة والمكسب من وراء الأكل «فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر؛ فأخذت من ثمرها وأكلت.» (تكوين 3:6)
وهكذا أضحت الأفكار التي تغزو الذهن وتفرض نفسها عليه، تأتي من القلب «من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة: زنى، فسق، قتل، سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل.» (مرقس 21:7- 22) وأصبح الذهن خاضعًا لرغبات القلب هذه. الدافع يبدأ من القلب، والذهن يخطّط وينفذ، مثلما حدث مع يهوذا «وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلمه.» (يوحنا 2:13) ثم بعد ذلك خطّط ذهنه لتنفيذ أشرّ فكرة خرجت من قلب إنسان.
لكن، حتى في علاقة الإنسان بالله، عمل الشيطان، وما زال يعمل جاهدًا، ليحجب نظر الإنسان حتى لا يرى الأمور على حقيقتها، بل يعميه فلا يرى الأمور كما يعلنها الله «... الهالكين، الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين.» ويستهدف هذا العمل الحيلولة دون استخدام الناس أذهانهم في إدراك الحقيقة «لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح.» (2كورنثوس 3:4- 4) وما زال الشيطان يجاهد في إلهاء أذهان الناس عن الله، لكي يسلكوا «ببطل ذهنهم، إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة الله،» والسبب في ذلك حالة القلب «بسبب غلاظة قلوبهم.» (أفسس 17:4-18)
عندما يتحرك الذهن ليحقّق رغبات القلب ويخدمها، تصبح معظمة أمامه فلا يقف أمامها متسائلاً: هل هي صحيحة أم خاطئة؟ هل عواقبها النهائية حسنة أم سيئة؟ هل الله مصادق عليها أم لا؟ ماذا يـمكن أن تكون خصائص هذا الذهن؟!
نتابع في العدد القادم