تحدثنا في الجزء الأول من هذه التأملات عن العبادة المقبولة، ورأينا ذلك في تقدمة هابيل، وكيف يجب أن تكون العبادة الحقيقية.
ونتحدث اليوم عن الجزء الثاني، الفرصة المرفوضة. ونرى هذا في موقف قايين من حديث الرب معه بعد رفضه لقربانه. يذكر الكتاب عنه: "فاغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه، فقال الرب لقايين: لماذا اغتظت؟ ولماذا سقط وجهك. إن أحسنت أفلا رفع؟ وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها." (تكوين 5:4-7)
نلاحظ في قول الرب هذا لقايين أنه أعطاه فرصة ثانية ليعود ويقدم ذبيحة أخرى بحسب فكر الرب، كما فعل هابيل. والعبارة "إن أحسنت أفلا رفعٌ؟" تعني: ما زالت أمامك فرصة أخرى لتصلح موقفك، وتحسِن اختيار الذبيحة.
والعبارة "إن لم تُحسن فعند الباب خطية رابضة،" فيها تحذير من رفض هذه الفرصة الجديدة، فالرفض يعني السقوط في الخطية. فإن الخطية كوحش مفترس متربص لافتراسك والانقضاض عليك.
والعبارة "وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها،" تعني أن الرب ترك له حرية الاختيار. وكأن الرب يقول له: هذه الخطية كامنة في داخلك، في فكرك وفي قلبك، لكن الكرة في ملعبك.
وهنا نرى محبة الله المتأنية لتعطي الإنسان مساحة من الوقت وفرصة للتوبة والرجوع والإصلاح، فإنه يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. وبكل أسف، لم يعطِ قايين أذنًا صاغية للرب، بل في قساوة قلبه وشرّه رفض الفرصة المقدمة له، ولم يتجاوب مع صوت الرب، صوت المحبة، لأنه كان قد صمم على قتل أخيه هابيل.
قارئي العزيز، ما زالت الفرصة الثانية مقدمة لك ولي.
زار بعض السياح قلعة، فأعطاهم الحارس المفتاح وقال: افتحوا باب المدخل الرئيسي وسألحق بكم. حاولوا أن يفتحوا الباب بالمفتاح ولم يستطيعوا أن يديروه. أعادوا الكرة مرة بعد الأخرى دون جدوى. ثم جاء الحارس وأدار المفتاح فانفتح الباب، وقال لهم: معذرة، إن الباب لم يكن مغلقًا، الباب مفتوح.
والباب ما زال مفتوحًا والفرصة مقدمة لكل من يتجاوب مع صوت الله المحب. وهذه بعض الأدلة والبراهين:
البرهان الأول: تأجيل العقاب
الله في محبته ورحمته، وكذلك عدله لا يعاقب أو يدين إنسانًا قبل أن يعطيه فرصة للرجوع والتوبة. ففي مثل التينة التي لم تثمر لمدة ثلاث سنين المذكور في لوقا 13، يذكر الكتاب أن صاحب الكرم قال للكرام: "هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد. اقطعها! لماذا تبطل الأرض أيضًا؟ فأجاب وقال له: يا سيد، اتركها هذه السنة أيضًا، حتى أنقب حولها وأضع زبلاً. فإن صنعت ثمرًا، وإلا ففيما بعد تقطعها." (لوقا 7:13-9). أعطاها فرصة جديدة للثمر.
والرب لم يهلك نينوى فورًا لشرها، لكنه أرسل لها يونان مناديًا لها ومحذّرًا من انقلاب المدينة لمدة أربعين يومًا. فالمدينة تابت بمناداة يونان. "فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه." (يونان 10:3)
يوجد من ينتهز الفرصة المقدمة له ويستفيد منها فيرجع للرب ويتوب، ومن يرفض هذه الفرصة المقدمة له فيهلك. إن الله "يتأنّى علينا، وهو لا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة." (2بطرس 9:3) لكن إلى متى؟
البرهان الثاني: استمرارية وقوف المسيح على الباب يقرع
يقدم الرب الفرصة الثانية لكنيسة اللاودكيين لتقوم من ضعفها وفتورها وتنتعش من جديد، فيقول لها الرب: "هنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشّى معه وهو معي." (رؤيا 20:3) يجب أن نلاحظ صيغة الفعل "واقف" في المضارع المستمرّ، فالمسيح في حالة وقوف مستمر. تقول عروس النشيد: "أنا نائمة وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا. افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي، لأن رأسي امتلأ من الطل وقُصصي من ندى الليل." (نشيد 2:5) فالرب يسوع ما زال واقفًا يقرع على باب قلوبنا ليدخلها ويغيّرها. فهل تفتح له القلب وتعطيه أسمى مكان؟
البرهان الثالث: استمرارية العمل الكفاري للمسيح
هل عمل المسيح الكفاري كان لوقت محدود ولزمانه فقط؟ لا! إنه لكل الأجيال حتى مجيئه الثاني. إن تجسده وموته على الصليب وقيامته، فرصة مفتوحة لكل من يسمع صوته ويُقبل إليه، لأن من يقبل إليه لا يخرجه خارجًا، ومن يؤمن بالابن فله حياة أبدية، "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية." (يوحنا 16:3) "لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات، خلصت. لأن القلب يؤمَن به للبر، والفم يُعترَف به للخلاص." (رومية 9:10-10) لكن، إلى متى تستمرّ هذه الفرصة؟ والرب قريب على الأبواب، والحياة غير مضمونة؟
البرهان الرابع: كل يوم جديد في حياتنا هو فرصة جديدة
فهل ننتهز هذه الفرصة المقدمة لنا من الرب لنتوب ونرجع إليه، ونجدد عهودنا معه؟
سيأتي الوقت ويُغلق الباب وتضيع الفرصة منا ونندم ولا ينفع الندم بعد ضياع الفرصة.