رأينا في المرة الماضية أن رسالة الرسول بولس إلى روما تنقسم إلى أربعة أقسام، وأن القسم الأول (1:1 - 11:5) موضوعه الإنجيل والخلاص من عقوبة الخطية. والآن سنتكلم عن القسم الثاني:
القسم الثاني (12:5 – 39:8) يتكلم عن الإنجيل (أي الأخبار المفرحة) والخلاص من سلطة الخطية. وهو يشمل أربعة أجزاء، أي أربعة حقائق أساسية:
أولاً، الرأسان
آدم هو رأس الجنس البشري، وبه دخلت الخطيئة إلى العالم. "من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ." (رومية 12:5) فكل إنسان هو مولود خاطئ. ولكن المسيح هو رأس الجنس الجديد. كل من قَبِل المسيح مخلصًا ينطبق عليه القول: "وأما كل الذي قبلوه فأعطاهم (الله) سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ." (يوحنا 12:1-13)
في رومية 12:5-21 يعمل الروح القدس مقارنة بين من في آدم ومن في المسيح. من آدم نرث الخطيئة، والدينونة، والموت. من المسيح نرث البر - أي نصبح كأننا لم نخطئ أبدًا، والتبرير- أي كما يقول في 1:8 "لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع"، والحياة الأبدية. (مما يساعد القارئ على فهم هذا الجزء هو أن يعتبر الآيات 13-16 كأنها بين قوسين). إذ يدرك المؤمن أنه الآن ينتسب إلى جنس جديد رأسه المسيح، مما يبعث هذا في قلبه رغبة على الحياة التي ترضي المسيح.
ثانياً، السيدان (أصحاح 6)
هذا الأصحاح يستحقّ الدراسة والتأمل مع الصلاة. ويا حبذا لو يُقرأ مرارًا لكي ترسخ هذه الحقائق في ذهن المؤمن. إنه يعلمنا حقائق أساسية عن حياة الإيمان. قبل الإيمان كان الإنسان بطبيعته عبدًا للخطية، ولكن بعد الولادة الثانية نتيجة الإيمان أصبح عبدًا لله. المؤمن قد مات مع المسيح كما تعلّمنا المعمودية (3:6-6) "كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية، ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا." (عدد 11) "عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه لكي يُبطل جسد الخطية، كي لا نعود تُستعبد أيضًا للخطية." (عدد 9) لاحظ تكرار الكلام عن العبودية: في عدد 17 "عبيدًا للخطية". في عدد 18 "عبيدًا للبرّ". في عدد 19 مقارنة "عبيدًا للنجاسة والإثم" و "عبيدًا للبر والقداسة". في عدد 20 "كنتم عبيد الخطية"، وفي عدد 22 "صرتم عبيدًا لله".
ثالثًا: الارتباطان (أو الزوجان) أصحاح 7
في هذا الأصحاح من عدد 1-6 يوجّه الرسول كلامه بصفة خاصة إلى المؤمنين اليهود إذ يقول: "لأني أكلم العارفين بالناموس." ولكنه أيضًا ينطبق على غير اليهودي الذي وضع نفسه خطأً تحت الناموس. فيقول إن ارتباط اليهودي بالناموس هو كرباط الزواج. لأنه في الترتيب الإلهي الموت هو الذي يفصل المرأة عن رجلها. ثم يعلمنا أن موت المسيح (وموت المؤمن معه) قد فصل المؤمن اليهودي عن ارتباطه بالناموس. فالمؤمنون بالمسيح يهودًا أم أمميين قد ماتوا مع المسيح وقاموا معه (وهذا معنى المعمودية كما رأينا سابقًا). وبهذا تحرر المؤمن من رباط الناموس. ولنلاحظ أن الترجمة الصحيحة للآية 6:7 هي "أننا مُتنا للذي كنا مُمسَكين فيه (أي الناموس)." ونكرر القول بأن المؤمن غير اليهودي لم يكن أبدًا تحت الناموس. وبهذه المناسبة يجب أن نتذكر ما جاء في رومية 14:6 "فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة."
من عدد 7-13 يؤكد أن الناموس ليس خطية، بل قد أَظهر أننا لسنا فقط خطاة بل أيضًا عصاة (أي كسرنا وصايا الرب لنا).
من عدد 14-24 يصف لنا الاختبار المرير المؤلم لكل مؤمن يحاول أي يرضي الله على أساس الناموس بمجهوداته وقدرته الذاتية، ولم يدرك أن قبوله لدى الله هو على أساس النعمة. لما حاول بعض الفريسيين أن يلزموا المؤمنين الأمميين أن يكونوا تحت الناموس، قال الرسول بطرس أن هذا هو بمثابة وضعُ نيرٍ "على عنق التلاميذ لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله." (أعمال 10:15)
"لأن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا." (يوحنا 17:1)
رابعاً: مصدران للقوة للعمل (الروح أم الجسد) أصحاح 8
هذا الأصحاح جميل وثمين. ولذلك اقترح على القارئ العزيز أن يقرأه بتمعّن متأملاً في الحقائق الجليلة الواردة فيه. وبما أن المجال هنا لا يسمح بدراسة تفصيلية لهذا الأصحاح، سنشير إلى بعض الحقائق الثمينة التي يقدمها لنا الروح القدس في هذا الأصحاح. والحقيقة أن الروح القدس نفسه هو الموضوع الأساسي في هذا الأصحاح، فهو مصدر القوة الروحية للمؤمن.
في نهاية الأصحاح السابع استمعنا إلى الصرخة المريرة للإنسان الذي يريد أن يرضي الله؛ أي، أن يتبرر على أساس مجهوداته الذاتية، فيقول: "ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟" الأصحاح الثامن فيه الإجابة الكافية عن هذا السؤال. وهو أن القوة الروحية مصدرها الروح القدس المعطى لنا. "ولكن إن كان أحدٌ ليس له روح المسيح، فذلك ليس له." (عدد 9) أي، هو ليس للمسيح - الترجمة التفسيرية. "بالروح نميت أعمال الجسد." (عدد 13)
يبدأ هذا الأصحاح بالقول إنه "لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع." وهذا يذكرنا بما جاء في 12:5-21. فالإنسان إما في آدم أو في المسيح.
في عدد 2 التحرر من سلطة الخطية والموت. فالمؤمن ليس عبدًا للخطية بل لله، وهذا كان موضوع أصحاح 6. في عدد 3 من أصحاح 8 نرى مرة أخرى أن الناموس لا يحررنا، لأن الناموس يطالب، ولكن لا يمنح القوة على التنفيذ. أما الروح القدس فهو الذي به نميت أعمال الجسد كما ذكرنا. ما أكثر البركات التي لنا بواسطة الروح القدس، المعزي الآخر، الذي يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله (عدد 16). الروح يعين ضعفاتنا ويعيننا في صلاتنا (عدد 26). تكلمنا في عدد سابق منذ شهور قليلة عن رومية 29:8-30. ما أجمل هذه الآيات التي تتكلم عن تبريرنا وتمجيدنا! وعن محبة الله الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين (عدد 32). ثم يقدّم الروح القدس عدة أسئلة ويجيب عليها. "إن كان الله معنا فمن علينا؟ من سيشتكي على مختاري الله؟ من هو الذي يدين؟ من سيفصلنا عن محبة المسيح؟
ويختم هذا الجزء من الرسالة بهذه الكلمات التي يجدر بنا أن نحفظها في الذاكرة ونرددها كثيرًا:
"فإني متيقّن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا."
في المرة القادمة سنتكلم بإذن الله عن الأصحاحات 9-11.