كان ذلك في الصباح الباكر من يوم الجمعة المصادف في الثامن والعشرين من شهر تموز/ يوليو الماضي حين رن جرس الهاتف في بيتنا، وما أن رفعت سماعة الهاتف لأردَّ على المتكلم، حتى سمعت الخبر الصاعق! كان المتكلم هو راعي كنيستنا في غلنديل القس ميشيل بطارسة يسأل فيها فيما إذا كنا أنا وزوجي قد سمعنا شيئًا عن الأخ كميل والأخت نورا. فقلت له: لا، ماذا حدث؟ قال لي: لقد تركت زوجته رسالة مستعجلة على هاتفي المحمول تقول فيها
بأنَّه تعرَّض لنزيف حاد في الدماغ وهو الآن في غرفة العناية المركزة بحالة الخطر الشديد. لم أستوعب بادئ ذي بدء ما قاله لي بفعل الصدمة، وظننت أن ما حصل للأخ كميل كان نتيجةً لحادث اصطدام سيارته. لكن حين استفسرتُ منه عن الأمر أنبأني بأنَّ نزف الدماغ الفجائي هذا قد حصل معه وهو نائم في الرابعة من صباح ذلك اليوم. ونُقل على أثره إلى المستشفى، وأنه سيذهب للحال لعيادته. ولما أقفلتُ الخط، جفِلتُ في مكاني من وقع الخبر، ولم أستطع للتوّ الردَّ على زوجي الذي ارتسمتْ على وجهه علامات الحيرة. ولم أفُه بعدها إلا بكلمة: يا رب رحمتك!
فالأخ كميل كان في صحة جيدة، ولم يكن يعاني من أيِّ مرض، أو يشكو من أية أوجاع. وقد احتفل مؤخرًا بعيد ميلاده الستين بين أهله وأحبائه حين سافر والعائلة كلّها إلى وطنه الأم الأردن، لقضاء عطلة الصيف. وبعد أن انتشر الخبر في الكنيسة وبين الأهل والخلَّان تساءل الكثيرون: كيف يمكن أن يحصل هذا؟ وهل من المعقول أن يحدثَ هذا النزف الداخلي Brain Aneurysm هكذا فجأة ودون سابق إنذار؟ ارتاع الجميع من هول المصاب الأليم، واغرورقت عيونُ الكبير والصغير ممّن عرفوه بالدموع، حزنًا على أخينا المؤمن والقائد.
عندها رحنا نصلي ونأمَل، الكبير منا والصغير، الشيخ منا والشاب، وبقلوبٍ مفعمةٍ بالحزن ومشوبةٍ بالخوف والقلق، صرنا نعرضُ طلبتنا أمام الله العلي القدير كيما يمنَّ على أخينا المحبوب بشفاء إلهي عجيب. لما لا؟ أليس هو الذي قال: أنا الرب شافيك؟ نعم، إنَّ يده قادرة وله وحده السلطان فوق جميع البشر وكذا طاقم الأطباء والممرضين. وصرنا ننتظر أن تتحقق المعجزة. لكن لم يحدث ما كنّا نرجوه أو نأمله.
مضى اليومُ الأول وتبعه الثاني، ولم نتلقَّ أيَّ خبر مشجع. بل كل ما عرفناه هو أنَّ أخانا في وضعٍ صحي حرِجٍ للغاية وأنَّ التقرير الوارد من الأطباء يؤكد أنَّ الدماغ في حالة ركودٍ كامل. وحين أتى يوم الأحد وكنا جميعًا قد انتهينا تقريبًا من الخدمة الصباحية في الكنيسة، وقف الراعي وطلب من الحضور الجلوس من جديد. وقبل أن يعلنَ الخبر الذي كنا نخشاه، قال وهو يحاول أن يسيطر على مشاعره: أخونا المحبوب كميل قد سبقَنا إلى المجد. قال هذا وجلس على الفور وهو يقاوم دموعه التي خانته وأبتْ إلاَّ أن تنزل من مآقيه بفعل الألم. عندها بدأ الحاضرون جميعًا بالبكاء. نعم، بكى الجميع كبارًا وصغارًا شيوخًا وفتيانًا. وشعرنا للتوّ وكأنَّنا خسرنا المعركة وأنّ الموت قد غلبَنا وانتصر. عندها قام أخ آخر وهو رابطٌ جأشه، ليعزي الجميع بكلماته المشجعة، فقال: أخونا كميل ينعمُ الآن بفرحٍ لا يوصف يا إخوتي، لأنه يمكث في حضرة سيده ومخلّصه الرب يسوع المسيح الذي أحبه وخدَمه طيلة حياته. إنَّ فراق أخينا دون شك هو عزيز جدًا على قلوبنا، ويؤلمنا كثيرًا، لكن ينبغي ألاَّ ننسى أنَّه ينبغي ألا نحزنَ كالباقين الذين لا رجاءَ لهم. فالمسيح فينا، نحن المؤمنين، هو رجاء المجد.
بالحق، إنَّ حياةَ الإنسان ليست إلا بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل. الحياة هي كزهر العشب سرعان ما يذوي ويذبل ويسقط. والأهم من هذا وذاك الآن، هو كيف تُقيَّمُ حياةُ الإنسان؟ هل نقدر أن نقول إنها حياةٌ تستحق التقدير والامتنان؟ تستحق المدح؟ هل عاشها صاحبُها إلى الملء والاكتمال؟ هنا يكمن السر.
عرفنا هذا فعلًا عن أخينا الفقيد الذي سبقَنا إلى المجد، حين استمعنا ليومين كاملَيْن فيما بعد إلى شهادات من أبناء وبنات الكنيسة عنه، من شباب وشابات الكنيسة الذين كان يقودهم في دراسات كتابية ومواضيع عملية، وكذا من أفراد عائلته الصغيرة والكبيرة ومن أصدقائه وشركائه في العمل. ويا لها بالفعل من شهادات قيمة ومميزة، تلك التي قيلت في أخينا وفي حياته وفي سلوكه وفي إيمانه القويم. سنحتْ لي الفرصة أنا شخصيًا أن أخدم إلى جانبه في هذه السنة مع طلاب صف الأوانا AWANA (برنامج للأولاد) في الكنيسة. فوجدتُه نِعمَ الأخ والخادم. إذ كان يمتاز بالتواضع والأمانة. كان بالحق صادقًا وصدوقًا، ونزيهًا وشفافًا ومرِنًا إلى أقصى الحدود. وشهِدتُ عن كثَب محبته الحقيقية والمخلصة للرب. إذ كان يحثُّ الفتيان والفتيات في سن المراهقة المبكرّة على أن يتخذوا مواقف صحيحة كتابية في وسط عالم مليء بالتحديات والضغوط.
أما ما شارك به البعض في حفل وداعه المؤثر فيما بعد، الذي حضره أكثر من ستمئة شخص، فقد كان بالفعل مشرّفًا جدًا على الرغم من أن العواطف كانت جياشة وعلى أشدِّها في ذلك اليوم. لماذا؟ لأنَّ سيرةَ حياة أخينا كميل كانت مجبولةً بالتضحية والبذل والعطاء والوفاء، وكانت سببًا في ربح أخيه كمال الذي كان يكبره بخمسة أعوام. تكلم يومها أخوه عنه وقال: سيرة حياة أخي كميل كانت شهادةً حية وإعلانًا واضحًا عن عمل الله. حياته هي التي تكلمت لي دون أن ينبُس ببنت شفة. نعم، حياته وصلاته من أجلي، هما اللذان أرجعاني عن الدرب المنحدر الذي كنت أتَّخذه في حياتي. وهكذا آمنت بالمسيح مخلصًا شخصيًا لي وتغيّرت.
وما شهدتْ به زوجته نورا عن شريك حياتها وحبيب قلبها فاقَ كلَّ وصف. إذ تحت عنوان: "قصة حب"، ارتأت نورا أن تعبّر بكلماتٍ على الورق فاضت من قلبها الجريح، عن كلِّ اختبار عاشتْه مع كميل منذ أن التقيا إلى اليوم الذي فيه ارتحل عن هذه الدنيا. ارتأت أن تحزنَ، لكن ليس كباقي البشر، في الغم والأسى واليأس، كلاَّ، بل في التركيز على سيرة حياة زوجها المؤمن لكي تكون مثالًا يُحتذى لكل الرجال والشباب. وهكذا تكلمت في هذه القصة عن حبّه الصادق لها وعن أمانته معها، وحرصه على راحتها وإكرامه لها. حكت عن صلواتهما معًا من أجل أن يمنحهما الرب أطفالًا، وكيف استجاب لهما الله فتوَّج حياتهما بولدين مميَّزين. إذ تبنَّيا بنتًا وولدًا زيّنا بيتهما الدافئ وجلَبا الفرح لنفسيهما. وذكرت أيضًا كيف أنها عندما كانت تقلق على أولادهما، وتخاف عليهما من المجتمع المحيط بهما، كان زوجها يقول لها: إن الله يحبهما أكثر منا، لذا علينا أن نرتاح ونتكل عليه من كل قلوبنا.
نعم، أصدقائي، ربما لن نستطيع بعقولنا المحدودة أن ندرك ما يحصل حين نفقد عزيزًا على قلوبنا، خاصة إذا كان بعد في منتصف العمر! لكننا نعلم تمام العلم واليقين أن الله مسيطر وأنَّ طرقه هي غير طرقنا وأفكاره غير أفكارنا. إن الموت لا يعرف كبيرًا أو صغيرًا، وهو حق على الجميع. والأهم من هذا وذاك هو أن يعرف الإنسان أن يحصي أيامه تمامًا كما قال صاحب المزمور التسعين رجل الله ونبيه موسى. ألم يقل: "إحصاء أيامنا علِّمنا فنؤتى قلب حكمة." لقد عرف الأخ كميل كيف يحصي أيامه فعاشها حتى الملء والوفرة. وكانت سيرةً حسنة بالحق والفعل. لم يعش كميل حياةَ الصلاح من نفسه، بل عاش صلاح المسيح الذي فيه، صلاح مخلصه فظهر ذلك في معاملاته مع أهله وأصدقائه وشركاء عمله. لهذا نهتف مع بولس الرسول ونردد: "قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا قد وضع لي إكليل البر..." (2تيموثاوس 4: 7و8أ)
فهل نقف لحيظةً لنفكر في حياتنا التي هي كبخار سرعان ما سيضمحل؟ هل عرفنا المخلص المسيح الذي وحده الصالح الذي أتى ليمنحنا قيمةً لحياتنا وليجعلها ممتلئة وفياضة ومؤثرة؟
نعم! نقول: الصدّيق كالنخلة يزهو... وشكرًا لله على حياة أولاد الله الذين سبقونا إلى المجد وتركوا آثارًا لا تمحى في قلوبنا. نعم، نشكر وسط َالحزن والفراق والألم،
بركات الرب عدِّد شاكرًا،
واعترف بالجود حتى في العناء
كل صبح ومساء ذاكرًا،
جوده السامي بحمد وثناء