بقية موضوع العدد السابق
يتطلب الغفران منا أن يعترف المخطئ بالخطيَّة بندم وتوبة.
تقدِّم عبارة الرَّب التَّالية في لوقا 3:17 الاستجابة الملائمة، "إن كنت قد تعرضتُ إلى إساءة ما،" وتقدم كذلك الاستجابة الصحيحة "إن كنتُ أنا المخطئ." هذه الكلمات البسيطة تشتمل على أهمية عظيمة: «إِنْ تَابَ...»
الطريقة التي أردُّ بها على مواجهة شخص يهتم بما فيه الكفاية حتى يواجه سلوكي الخاطئ تكشف عن شخصيتي.
يوضِّح سفر الأمثال بأنَّ استجابتي للتوبيخ الصَّحيح هي الدَّليل على حكمتي: «لاَ تُوَبِّخْ مُسْتَهْزِئًا لِئَلاَّ يُبْغِضَكَ. وَبِّخْ حَكِيمًا فَيُحِبَّكَ.» (الأمثال 8:9)
التَّوبة الحقيقيَّة هي أكثر من مجرد اعتذار أو ندم. هي تغيير في العقل الذي يغيِّر التَّصرّف بدوره. إنَّها أعمق من الندم، لأنَّها تقتضي تصميمًا على التَّغيير. ويمكن أن تكون حقيقية حتى وإن لم تُنتِج تغييرًا فوريًّا. على أيِّ حال، يقترح لوقا 4:17 بأنَّه يمكن للإنسان أن يتوب سبع مرات في اليوم! ولفظ التَّوبة المذكور هنا لا يعني الشعور بالندم فقط، بل يعبر عنها بالتالي: إذا «رَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ.» بدون الفعل العملي لا تكتمل التَّوبة. قال يسوع: إن «رَجَعَ إِلَيْكَ (أخوك) قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ، فَاغْفِرْ لَهُ.» الغفران الحقيقيُّ تجذبه التَّوبة فيتدفّق نحوها.
الوضع المثاليِّ واضح: أُسيء إليَّ... أواجه المخطئ... يعلن توبته بصدق... أُعلن غفراني له. لكن في بعض الأحيان لا يعترف المخطئ بخطئه، مهما كان الدَّليل على خطيته واضحًا. وفي بعض الأحيان لا يكون لديه أيُّ ندم؛ وحتى قد يحتفل بالشَّرّ الذي صنعه بي. وفي أحيان أخرى، لا يمكن للشخص أن يتوب لأنَّه مات أو لأنه مريض للغاية وغير قادر على الاستجابة لي. فماذا نفعل حينها؟ هل نغفر على أيِّ حال؟ الغفران ليس دائمًا بالأمر البسيط.
يُعطى الغفران بكرم وسخاء
لم يتطرق يسوع لمناقشة حالة غير التَّائب. لكن، كانت وصيته واضحة: إذا تاب، اغفر له. الشَّخص المغفور له يُمحَى سجل خطاياه.
لقد شدَّد الرَّب على طبيعة الغفران المدهشة بكلماته الموضحة في لوقا 4:17 «وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ، وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ، فَاغْفِرْ لَهُ.» لم يكن يسوع يشجع على قول كلمات ندم رخيصة؛ بل كان يحث أتباعه على الاقتداء بنعمة الله العجيبة الباحثة عنا في خضم خطايانا وتمردنا. الغفران لا يُكتسَب بل يُمنح، ويُمنح بسخاء وكرم.
لاحظ بأنَّ الشَّخص الذي أُسيء إليه فقط هو من يمكنه أن يغفر. لقد اعترف الناس لي بأخطاء ضد شخص آخر أو ضد منظمة وطلبوا مني الغفران. لكني لست طرفًا في هذا الخطأ الحادث، لذا لا يمكنني أن أغفر. على الغفران أن يصدر عن أولئك الذين تمت الإساءة إليهم.
يطلب يسوع منا أن نغفر للتائبين. وهذا يعني التَّخلّي عن الرَّغبة في الانتقام لنتعادل، والتخلي عن الطَّلب من المخطئ لدفع الثَّمن المطلوب مقابل خطئه. الغفران يعني أن تقول للآخر: «أنت حر، لقد دُفِعَ دَينك.»
الغفران لا يعني نسيان التَّذكُّر، بل تذكّر النِّسيان، قد يبدو هذا الأمر وكأنَّه مفارقة، لكنَّه ليس كذلك. نحن نتذكر ما قد حدث، ربما في كل مرة نلتقي فيها بمن أساء إلينا. لكن الإعلان «أنا أغفر لك» لا يدخل في مجال فقدان الذَّاكرة المتعمَّد. لكنَّه إلزام لنفسي بألّا أعاملك على أساس ما قد فعلته بي، حتى وإن كنت أتذكره. إن عامل الوقت قد يقلل أو يُخفف من حِدَّة الألم، لكن من غير المحتمل أن يمحوه تمامًا من الذَّاكرة.
الغفران ينظر إلى العينين ويقول هذه الكلمات الصَّعبة: «أنا أغفر لك.»
في نفس الوقت، الغفران لا يُصلِح بالضرورة الوضع القائم وهذا ما علينا إدراكه. وهو لا يعني المصالحة. الغفران يمحو سجل الأخطاء؛ لكنَّه لا يعيد بناء الثِّقة على الفور. الغفران يُعطَى؛ المصالحة تُكتسَب. الغفران يُلغي الدِّيون؛ لكنَّه لا يزيل جميع الآثار. على سبيل المثال، لو كانت زوجة قد تلقت معاملة سيئة من زوجها قد تغفر له، لكنَّها ستكون غير حكيمة إن سمحت له بالعودة إلى منزلها ما لم يكن هناك دليل واضح، مع مرور الزمن، على حدوث تغيير عميق في تصرفاته. وقد يغفر زوج فعلًا لزوجته الزَّانية، لكن لا يعني هذا بالضرورة أنَّه يمكن للزواج أن يُستعاد بطريقة تلقائية. المصالحة والغفران مرتبطان، لكنَّهما مختلفان تمامًا.
باختصار، ينطوي الغفران على اختيار وفعل. الغفران الحقيقي لا يمكننا اختزاله في صيغة بسيطة، لكن من المفيد أخذ الخطوات الأربع السابقة بعين الاعتبار.
واجه الحقائق. يتطلب الغفران الحقيقي تحديد ما قد حدث بالضبط وفهم فحواه وأهميته. فيما يلي أربعة أسئلة مفيدة:
• ما مدى خطورة الخطأ؟ بعض الأمور تتطلب منا الصبر أكثر من الغفران.
• ما مدى اندمال الجرح؟ هل لا يزال مفتوحًا وطريًا؟ الأمر ليس مسألة وقت فقط. فقد «أُزيل قشرة الجرح» لأبقيه مفتوحًا.
• ما مدى قرب هذا الشَّخص مني؟
• ما مدى أهمية علاقتنا؟
اشْعُر بالمشاعر
هناك خطورة تنتج عن «الغفران السَّريع.» فالإعلان اللفظي المتسرِّع قد يمنعنا من معالجة الخطأ. كذلك توجد خطورة من «الغفران البطيء» والذي قد أقول فيه باستمرار «لست أشعر بأني مستعد بعد.» في الواقع هناك فترة نحتاجها كي نعبِّر فيها عن حزننا (ليست قصيرة ولا طويلة) على ما حدث معنا.
قرار وإعلان. الغفران مسألة طاعة، واختيار داخلي يُعلِن، «أنا أغفر لك.» هذه الكلمات تعلن بوضوح بأنَّ الموضوع قد مات ودُفن. ولكن عندما يعود ويتبادر إلى ذِهننا، نأخذه إلى الله.
عندما كنت في الـ 15 من العمر، سألت والدي كي يسمح لي بقيادة السيارة أثناء عودتنا من الكنيسة إلى المنزل في يوم أحد. وللأسف، فقدت السَّيطرة على السيارة في إحدى الزَّوايا واصطدمت بعمود إنارة، مما تسبب في تلف للسيارة يُقَدَّر بمئات الدُّولارات. كنت أشعر بالخجل والخوف. وبينما البُخار يخرج من المبرِّد (الراديِيْتر) وقبل حتى أن نخرج نحن من السَّيارة، التفت والدي نحوي وقال، «لا بأس يا جِرَاي. أنا أسامحك.» لم يحدث ولو لمرة واحدة، لبقية حياته، أن ذكر أبي تلك الحادثة، رغم أنَّها كانت قد كلفته الكثير من المال. وبكل سرور سمح لي فيما بعد باستخدام السيارة عندما حصلت على رخصة القيادة الخاصة بي.
جدِّده. الغفران ليس قرارًا يتم أخذه لمرة واحدة. فقط بالاعتماد على نعمة الله ومعونته يمكننا عدم السماح للألم الذي سبّبته لنا الإساءة أن يظهر للعلن مرة أخرى. هناك ملاحظة لـ سي. إس. لويس، تقول: «أن تغفر للحظة ليس بالأمر الصعب، لكن أن تستمر غافرًا، وأن تغفر ذات الإساءة في كل مرة ترد على ذاكرتك – فإنَّ هذا هو الصِّراع الحقيقي.»
خلال الحرب العالميَّة الثَّانية، تم القبض على أسرة كوري تن بوم لإيوائهم وإخفائهم يهودًا في بيتهم. أُرسلَت كوري وأختها إلى رافنسبروك، أحد معسكرات الموت النازية، حيث شاهدت كوري موت أختها وآخرين كثيرين. ثم في عام 1947، عادت إلى ألمانيا للمشاركة بالإنجيل.
في إحدى خدماتها، تكلَّمت كوري عن غفران الله. وبعد الخدمة، كان هناك صفٌ طويل من الناس ينتظرون التَّحدث معها. رأت في الصف، وجهًا مألوفًا رهيبًا – رجلًا كان واحدًا من أقسى الحُرَّاس في معسكر السِّجن. عندما رأته، غمرتها ذكريات مؤلمة. جاء الرَّجل إليها، وهو يمد يده، وقال: «رسالة رائعة، يا سيدتي. كم من الرائع هو أن نعرف بأنَّ خطايانا قد صارت في أعماق البحر.» لم تمد يدها إليه وتُسَلِّم عليه، لكنَّها ارتبكت وأخذت تعبث في حقيبتها. فقد تجمد دمها. لقد عرفته، لكن من الواضح بأنَّه لم يعرفها، وهذا مفهوم؛ فهي مجرد واحدة بلا وجه بين عشرات الآلاف من السجناء، ثم قال: «لقد ذكرتي برافنسبروك، فقد كنت حارسًا هناك، لكن منذ ذلك الحين أصبحت مسيحيًا. أعرف أنَّ الله قد غفر الأشياء القاسية التي فعلتها هناك، لكنني أريد أن أسمع ذلك منكِ أيضًا.» مرة ثانية مدّ يده وقال: «سيدتي، هل تغفرين لي؟»
كيف يُمكنها ذلك، بعد كل ما حدث؟ أبت يدها أن تتحرك، لكنَّها عرفت أنَّ الله يريدها أن تغفر له. كل ما أمكنها فعله هو أن تبكي في داخلها وتصرخ «أعنِّي يا يسوع، يُمكنني تحريك يدي، لكن عليك أن تفعل الباقي.» وهي مجروحة مدَّت يدها بشكل ميكانيكي لتسلم عليه. كانت تفعل ذلك بدافع الطَّاعة والإيمان، وليس بدافع الحب. على أيِّ حال، حتى وهي تفعل ذلك، اختبرت نعمة الله المغيِّرة، وكتبت:
بكيت قائلة: "أغفر لك يا أخي! من كل قلبي!" منذ اللحظة الطويلة التي تصافحنا فيها بيد بعضنا البعض، أنت الحارس السَّابق وأنا السَّجينة السَّابقة. لم أكن قد أدركت أبدًا من قبل محبة الله بهذا القدر المكثَّف، الذي أدركته في تلك اللحظة، لكني حينها عرفت بأنَّ تلك لم تكن محبتي أنا. لقد حاولت أنا، ولم تكن لديَّ القدرة. لقد كانت قوَّة الرُّوح القدس.