وقف النبي حبقوق يترقّب كلمة الله في الظروف الصعبة القاسية المحيطة به، وإذا بالله يكشف له خطته الخلاصية عبر العصور، فأمسك بقيثارة الروح ليضرب على أوتارها مزمور تسبيحة: "قد سمعت خبرك فجزعت..." لأنه عندما سمع كلام الرب وكشف له أسراره امتلأت نفسه رهبة.
إن هذه الرؤيا امتداد لما يفعله الله، ففي محبته يغضب ويؤدِّب، لكنه في غضبه يعود ويرحم. "في الغضب أذكر الرحمة." إنه محتجب، لكنه يعلن ذاته لشعبه خلال الناموس الموسوي والتي تجلت بكمالها خلال تجسد الكلمة الإلهي، إتمامًا لإعلان الخلاص على الصليب، مبتدأ من جبل سيناء حتى هضبة الجلجثة. رأى حبقوق أن الله وحده الذي يحوّل الألم والضيق والمرارة إلى بهجة وفرح وقوة لينطلق الإنسان فوق كل الأحداث في خطوات متتالية:
أولاً، صلاة الضيق
أدّى الظلم في الأرض إلى غضب الله تاريخيًا إلى اليوم الذي اعترضت الشعوب الوثنية طريق شعب الله من مصر إلى كنعان. فشقّ الله بحر سوف ونهر الأردن. إن رحلة خروج شعب الله من مصر تشير إلى رحلة حياتنا على الأرض. فعبور البحر الأحمر يشير إلى غسل الكلمة (أفسس 26:5). وتيهان البرية هو عمر الإنسان وجهاده على الأرض. وفي النهاية، عبور الأردن ودخول كنعان تعبير عن الموت ودخول الراحة السماوية. لقد ارتعدت أحشاء حبقوق إذ رأى الكلدانيين يفسدون كل أثمار التين والكروم والزيتون. أليست هذه صورة الإنسان الساقط تحت سلطان إبليس فلا يتمتع بالنعم الروحية السماوية؟ هل تعلم أنه بعيدًا عن المسيح لا يتوفَّر طعامٌ روحيٌّ، بل جوعٌ ومرضٌ وموتٌ كحظيرة بلا غنم ولا مذود ولا بقر. فالتين إشارة إلى الأمة اليهودية التي لعنها المسيح والمحبة المنعدمة في أيامنا، والكرمة تشبه الكنيسة التي انقسمت إلى طوائف ضعيفة، والزيتونة كالعذارى الجاهلات بلا زيت في آنيتهنّ؟
ثانيًا، خطية العصر
لكل عصر خطاياه. ففي الجنة مثلاً، كانت الشهوة والأكل، والشك في أقوال الله، ومشاركة الغير في المعصية، وفي أيام قايين وهابيل، من هو الأفضل؟ في أيام نوح، أولاد الله تزاوجوا مع بنات الناس وظهر الانحلال العائلي، وفي أيام لوط مارسوا الشذوذ الجنسي. أما في أيام حبقوق فانتشر روح النزاع والخصام بين شعب الله بالإضافة إلى ضغط الحروب الشرسة. لذلك أحسّ حبقوق بالضيق والظلم وتفشي الإثم، لكنه لم يرَ تأديبات الله وعقابه. لقد وجه الله نظره إلى الويلات التي أنزلها على ملك بابل وجنوده: الويل الأول، ويل لمن يشتهي أو يطمع أو تسيطر عليه محبة المال أو إرضاء الرغبات الجسدية، والويل الثاني لمن يسقي صاحبه خمرًا لكي يجلب عليه عارًا ويشهِّر به إذ ملأ الحقد قلبه. الويل التالي هو على الوثنية التي اتسمت بها بابل وعبادة الأصنام. إنها خمسة ويلات. إذن، كيف يحيا البار؟ وكيف يتبرّر الإنسان عند الله؟ "أما البار فبالإيمان يحيا." ويُقال عن المسيح: "مبطلاً بجسده ناموس الخطايا (الذي عرفنا به الخطايا)." (رومية 17:1 وأفسس 15:2) فأصبح المسيح هو مقياس البر. قد ينطبق هذا أيضًا على إسرائيل وبابل في الأيام التي أعقبت موت يوشيا والأيام الأخيرة التي نعيشها.
ثالثًا، قاس الأرض
بدأ الرب يعمل "وقف وقاس الأرض". فهي خليقته، يدبّر كل أمورها وليس شيء خفيًّا أمامه. إن الله يعبّر عن معاملاته بلغة البشر. مثلاً، عندما "وقف" هذا في تعامله مع الأبرار، "صعب عليك أن ترفس مناخس (أي مهماز أو شوكة – ترجمة فاندايك الحديثة، NKJV)" وماشيًا عندما سقط آدم، لأنه يأتي ويقرع على قلبك، وجالسًا لكونه الديان والملك لكي "تخضع له، ونائمًا في سفينة التجربة ليختبر ويعين. قد تقف الشمس والقمر في برجهما كما في أيام يشوع لتكتمل النصرة على الأعداء (يشوع 12:10-13). عندئذ تشرق شمس البر وتزداد انعكاسات القمر حتى يتحقق النصر تمامًا. إنها إشارة واضحة لخدمة الكنيسة، وفي الصليب الشمس والقمر وقفا في بروجهما. هذا هو ثمن الخلاص، وهنا لغز سلم يعقوب وسر بهجة حبقوق. تمنت ماري جونس أن تشتري الكتاب المقدس وانتظرت حتى توفر ثمنه، وكانت تسير أميالاً لتقرأه مع أحد أقربائها. لما اكتمل ثمن الكتاب توجهت إلى المكتبة ولم يكن بها إلا نسخة كانت محجوزة عندهم لشخص سبق واشتراها، لكنه أعطاها لها. كانت هذه القصة سببًا لتأسيس جمعية الكتاب المقدس البريطانية والأجنبية سنة 1804.
رابعًا، كلمة القسم
جاء النص الكتابي لسقر حبقوق 9:3 في الترجمة اليسوعية (1881) "تجرد قوسك تجريدًا والقسم هو سهام كلمتك." هذا يأتي بنا إلى عبرانيين 13:6-18 "فإنه لما وعد الله إبراهيم إذ لم يكن له أعظم يقسم به أقسم بنفسه... فإن الناس يقسمون بالأعظم ونهاية كل مشاجرة عندهم لأجل التثبيت هي القسم... توسط بقسم حتى بأمرين عديمي التغير لا يمكن الله يكذب فيهما تكون لنا تعزية قوية." فالوعد إذن مقترن بقسم "وباسمه تحلف." (تثنية 13:6؛ 20:10) بمن نقسم؟ باسمه فهو الذي به يقسم إذ يقسم بذاته، فالقسم عندهم أجازته الشريعة الإلهية (العدد 19:5 و21). لذلك إذا أقسم الله، فإنه يقسم بذاته. على أن الكلمة "توسط" تعني إقامة ذاته تعالى وسيطًا. وأما الوسيط فلا يكون لواحد، ولكن الله واحد فأعطى إبراهيم الوعد بنفسه. "حتى بأمرين" أي القسمين: الواحد بإعطاء إبراهيم ابنًا من نسله هو المسيح، والثاني بإقامة هذا الابن كاهنًا على رتبة ملكي صادق (مزمور 4:110)، و"القسم هو سهام كلمتك".
خامسًا، مسيح الأجيال
القوس هنا رمز للإنجيل الذي أعلنه مسيح الخلاص، فهو ظفر وغلب (رؤيا 2:6)، ووجه سهام قوسه "تعليم الإنجيل" على قلب أعدائه (مزمور 5:45) ليكمل لنا خلاصًا أبديًا (مزمور 35:89). "شققت الأرض أنهارًا" وشق الصخرة "وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا. لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح." (1كورنثوس 4:10) فالمسيح أخذ على عاتقه القضية وصوب جعبته "سهامه" ضد الأعداء كما في أيام يشوع "عريت قوسك تعرية." إذًا القوس الذي تعرّى تعرية ليضرب كالسهام السباعية هو التجسد "أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس." في اليوم الأخير من عيد المظال رتب الرب فريضة "السكيب" التي يأخذها الكهنة من ماء بركة سلوام ويسكبونها عند المذبح وفي قناة الهيكل، ثم يرنمون إشعياء 3:12 "فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص." هناك وقف يسوع عندما قال: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس." (يوحنا 37:7-38)
سادسًا، سباعيات الكلمة
إن الكلمة قسم في اللغة العبرية (Shaba) تعني قطع عهدٍ مع أو وعد بقسم أو تعهد، ويتضمن القسم السباعي الكامل (تكوين 28:21). وقد يخضع المتهم بتهمة ما للقسم (تكوين 6:50). تأدية القسم تتكرر سبع مرات لكي يكمل القسم كما أن عهد الله (القسم) كان مع سبعة: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، ويشوع، وداود، ويسوع. يرى كلفن وجيروم أن هذا الوعد للأسباط وليس فقط لإبراهيم لكي يتجه نظرهم إلى النعمة المخلصة لجميع الناس في المسيح. لذلك جاء في حبقوق 9:3 في ترجمات تفسيرية أخرى: "جهزت قوسك وأعددت سهامك الكثيرة." (الكتاب الشريف) و"جرّدت قوسك وتأهبت لإطلاق سهامك الكثيرة." (كتاب الحياة) و"عريت قوسك تعرية. سباعيات سهام كلمتك." (ترجمة فاندايك) تجرد قوسك تجريدًا والقسم هو سهام كلمتك." (الترجمة اليسوعية) إن العدد سبعة هو عدد الكمال دينيًا لأنه مركب من 4 أركان العالم + الإعلان الإلهي في ثالوث اللاهوت. الخلاصة أن "عريت تعرية" حسب قسم الرب "بالجمع" لآبائهم وتأكد بالدخول إلى كنعان، فالقسم يتكرر ويتجدّد ليس فقط لإبراهيم. الفكرة هنا أن سهام يهوه هي فعلاً كلمته.
سابعًا، بهجة الخلاص
"الله جاء من تيمان" أو "من الجنوب" لأن بيت لحم جنوب أورشليم حيث وُلد المسيح و"القدوس من جبل فاران" أو "الجبل المظلل: حيث كان شعب الله تائهًا في سيناء. وقوله "جاء من تيمان" أي ظهر وتجلّى مجده في تيمان (تثنية 2:33). ظهر الله بمجده فامتلأت الأرض تسبيحة "فإني أفرح بالرب وأبتهج بإله خلاصي." إن تيمان وفاران في سيناء حيث جاء لليهود من سيناء بالوصايا والناموس أولاً، ثم أدوم رمزًا لمعرفة الأمم "أشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران." أما حبقوق فيتكلم عن انتشار المعرفة من خلال عمل المسيح والفداء الذي تممه على الصليب فيبدأ بسعير "للأمم" ثم جبل فاران "لليهود"، و"له في يده شعاع" إشارة للمسيح نور العالم (إشعياء 5:51 و9)، واستتر مجد لاهوته في جسده "قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمى."
اشتغل غلام صغير في حقل أحد الفلاحين، لكنه كان دائمًا متضايقًا لأنه يطلب منه أن يأخذ السلة التي لا يمكن أن تحتفظ بالماء ليملأها بالماء. أخيرًا أباح السيد له بالسر لكي لا يتركه قائلاً: انظر إلى السلة لقد صارت نظيفة وهذا ما قصدته في أول كلامي: "قدسهم في حقك. كلامك هو حق." لقد صدق الراحل القس فواز عميش عندما شدا له:
هل ليسوع من مثيل في الطهر والجمال
في شخصه الفذّ الفريد تجسّم الكمال
لا ليس مثله قد فاق مجده
قلبي يحبه ويهوى شخصه.