يُقال إنَّ الحياةَ العصريةَ السريعة، وحاجةَ الإنسان إلى التأقلم معها ومع متطلباتها الكثيرة، قد أثَّرت على نفسيته بشكل كبير. حتى راح البعضُ من الناس ينبذون طريقةَ العيش هذه، ويحاولون الابتعاد عن كلِّ ما ينغِّص عليهم حياةَ الراحة والسلام والصفاء والهدوء.
أما آخرون فاختاروا الانزواء وصاروا يفضِّلون أن ينطووا على ذواتهم ويقضوا وقتًا بمفردهم يُطلِقون خلاله العَنان لخيالهم علَّه يسرحُ بهم إلى عالمٍ آخر بعيد عن العجيج والضجيج والضوضاء وحتى حمل المسؤولية. وأضحى لكلِّ فئة من الناس مفهومُها المختلف عن الحياة، وفلسفتها المتنوعة. ولا نستغربُ إذا قلنا إنَّ الفئة الأخيرة أصبحت في بعض الأحيان تعاني من عدم اتزانٍ في التفكير والتصرف بسبب عزلتها هذه، مما أثَّر على العلاقات مع الناس، وأحيانًا حتى مع أقرب المقرّبين الأهل والإخوة.
ويخطئ البعضُ حين يلومون الحياةَ العصرية وأسلوبها وسرعةَ النفحة التي تسير عليها، بأنّها هي السببُ الأول في فشل البعض واستسلام البعض الآخر إلى مشاعر الإحباط والاكتئاب، أو اليأس، أو الانزواء، وإلى انحناء النفس، أو حتى الانفصالِ عن الواقع المحيط بهم والعيش في عالم خيالي آخَر لا صلةَ لهم به. لماذا يخطئون يا تُرى؟ وهل مرَّ الناسُ في القديم من الأجيال وعبر السنين الغابرة بمثلِ هذه الحالات التي أثَّرت على نفسيّاتهم؟ بالطبع نعم. فالإنسانُ بتركيبه جسدًا ونفسًا وروحًا، هذه الثلاث لم تتغيَّر عبرَ السنين. والنفس التي تأثَّرت في الماضي بأزماتٍ وأحداثٍ وضيقات وحروب وويلات مهما كانت بدائية، لا بدَّ أن تكونَ قد عانت الكثير وشعرتْ بالفشل والإحباط والانحناء والحزن وربما فقدان الأمل والرجاء بشكلٍ كامل. من المؤكد بأنّ أساليب الحياة العصرية قد اختلفت على الرغم ممَّا فيها من تسهيلات من نواحٍ عديدة ومن فوائد في عالم التكنولوجيا، ومن أساليب مفيدة في نوال العلم والمعرفة، إلا أنَّ الإنسان ما يزال يعاني إلى الآن في داخله من أشياء تقضُّ عليه مضجَعه وتؤثر على روحه وحناياه من الداخل. فالإنسان إنسانٌ أكانَ في الحاضر القائم الآن، أم في الماضي الغابر من السنين، لم تتغير تركيبتُه التي خلقه الله فيها منذ أبينا الأول آدم. تأثَّر في السابق وما فتئَ يتأثر اليوم بكلِّ ما يجري من حوله وبما تتطلَّبه الحياة منه وما يواجهه فيها من ضغوطات متعددة.
"ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يُصنع، فليسَ تحت الشمس جديد." (جامعة 9:1)
هذا ما فاه به سليمانُ الحكيم مرةً ودوَّنه لنا بالروح القدس في سفره. مع أنَّ سليمان كان ملكًا غنيًا وحكيمًا، لكنَّه بعد أن جرّب كلَّ شيء في الحياة كرهَ الحياة ولم يحبَّها بسبب مَللِها ورتابتها. حتى إنه قال في هذا المنحى: "فكرهتُ الحياة... لأن الكلَّ باطلٌ وقبضُ الريح ولا منفعةَ تحت الشمس." (جامعة 17:2) ليس هذا فحسب، بل تساءل سليمان الحكيم أيضًا عن لغز الحياة فقال مثلًا: "لماذا يتألم الأبرار، وينعم الأشرار؟" نعم وهو الحكيم والعارف احتار أيضًا في ألغازها. وقال بما معناه إذا كان الموتُ نهايتها فما نفعُ الحكمة إذن؟! وهنا وصل الملك سليمان وبكل حكمته البشرية إلى هذه النتيجة وربما يصحُّ فيها الوصف بأنهَّا النظرةُ السوداوية للحياة من منظورِ الحكمة البشرية، المجردة والبعيدة عن كل معنىً روحاني أو علاقة مع الله الخالق ربِّ هذه الحياة والنفَس المعطاة للإنسان.
فلا جدوى من كل ما يجتازُ به الإنسان ويختبره في حياته إذا كان في بُعدٍ عن مصدر الحياة ومعطيها ومانحها. لأنَّ كلَ ما ينجزُه الإنسان، ولأن كلّ اختبار أو تجربة يمرُّ بها هي التي لا بدَّ أن تدفعَه يومًا ما أو تجرّه إلى اكتشاف الحكمة الروحية والتعرف إلى القيم الأبدية، وإيجاد السعادة الحقيقية.
والصغير كما الكبير يا قارئي، والشابُّ مثل الفتاة، والمراهق أيضًا له قضاياه وقصصُه. هو أيضًا يعاني أحيانًا من ضغوطات الحياة وقساوتها. ونجد البعض ينحني ويتلوَّى تحت وطأة الحمل الثقيل فيشعر بالوحدة والانعزال والألم في حناياه الداخلية. وبغضِّ النظر عن الأسباب فإنَّ الصغير أو المراهق أو الشاب اليافع الناشئ، يبقى غضًا وسهلًا للوقوع فريسةً في كمَّاشة القنوط واليأس. فلقد فوجئت حين كنتُ منذ أسابيع أقوم في تأدية رياضتي البدنية في نادي الرياضة الخاص بالسيدات حين سمعتُ بأنَّ اثنتين من الجدَّات اللاتي ينتمين إلى هذا النادي الصغير، قد فقدت كلُّ منهما حفيدةً لها في الثانية عشرة من عمرها. لماذا؟ لأنهنَّ أقدمتا على الانتحار بسبب التنمُّر عليهما Bullying في المدرسة وفي صفحاتِ التواصل الاجتماعي. هاتان الفتاتان الغضَّتان لم تحتملا هذا الضغط، فعلَقتا نفسَيهما بالحَبل يأسًا وأنهتا حياتهما التي لم تعدْ لها معنى بنظرهما.
وماذا نقول في شأن الطالب نيكولاس كروز Nikolas Cruz البالغ من العمر تسعة عشر عامًا، الذي قام منذ أسابيع فقط على نَحْرِ زملائه في المدرسة الثانوية بسلاحه الفتاك AR-15 الذي لا يُستعمل كما قيل عندها إلا في المعارك وأرض القتال! ولقد حصَد يومها في باركلاند فلوريدا، سبعةَ عشر من الطلاب والطالبات، وجرحَ خمسةَ عشر آخرين في خلال دقائق معدودة! لقد ابتاع نيكولاس هذا السلاح وغيرَه أيضًا من مكانَين مختلفَين لبيع الأسلحة في فلوريدا. وزعم صاحبا الحانوتَين بأنَّه جاز اختبار معرفة خلفيته عند إملاء الاستمارة الحكومية المطلوبة التي تؤهِّله لشراء السلاح، كما قيل آنذاك، إلا أنَّه بالطبع لم يكن صادقًا في إملاء استمارته في كلا المكانين. لأنه كان يعاني من مشاعر الإحباط واليأس والفشل في حياته لسنين عديدة جعلته مريضًا في العقل والنفس حسبما تبيَّن فيما بعد. ومثلُه الكثير ممَّن يقدمون على استخدام الأسلحة الفتاكة ويعتدون على حياة الطلاب الأبرياء.
ونتيجة لذلك الحادث ومثلُه الكثير من الاعتداءات على المدارس التي تحصل من قِبل الطلاب أنفسهم، والتي بلغ عددها في هذه السنة الدراسية 2017-2018 إلى ثمانية عشر اعتداء، قام الطلاب بالتجهيز لمسيرة طلابية كبيرة أطلقوا عليها اسم: Student Survivors of The Parkland Florida يحثّون فيها الطلاب من الولايات كافة على الحضور إلى واشنطن دي سي في الرابع والعشرين من شهر آذار لإبداء استيائهم وسخطهم وغضبهم على ما يجري من حصد للنفوس البريئة والخوف والرعب اللذين صارا جزءًا من حياتهم اليومية. سوف يأتون إلى واشنطن للضغط على المسؤولين لمنع توفير السلاح بين أيدي الناس وخاصة الشباب. وأيضًا ليطالبوا بوضع قوانين صارمة على كل مشترٍ وبائع. ولقد انضمَّ إلى صوت هؤلاء الطلاب في الثانويات عامةً، ممثلون سينمائيون في هوليوود كجورج كلوني وزوجته أمال المحامية العريقة. كما وتبرّع كلوني وزوجته بنصف مليون دولار من جيبهما الخاص من أجل تسديد مصاريف هذه الحملة.
نعم يا قارئي، حياةُ الإنسان وإنجازاتُه وعلْمُه وكلُّ ماله، هذه كلُّها لا تساوي شيئًا إذا ما كان صاحبها بعيدًا عن الله خالقه مصدرِ الصلاح والخير والأمان. لهذا نفخ الله فيه روحه الخالدة منذ البدء لكي تبقى هذه الروح تتواصل معه وتتَّصل به. ومهما تعرّض الإنسان في حياته إلى صعوبات وتجارب وإحباطات وفشل ويأس فإنه سيجده هو الوحيد المعين والعاضد الذي يرفع نفسه الكئيبة الحزينة في حينه. وعن هذا شهد النبي والملك داود في القديم إذ قال:
"لماذا أنتِ منحنيةٌ يا نفسي؟ ولماذا تئنّينَ فيَّ؟ ترجَّي الله، لأني بعدُ أحمده، خلاصَ وجهي وإلهي." (مزمور 11:42)
أما هدسون تيلور مبشر الصين الشهير في العصور الماضية، فلقد طلب في رسالة إلى أخته أميليا بأن تصلي من أجله فقال: "صلِّ من أجلي يا أميليا كيما يأخذ الله قلبي الحجر هذا ويمنحني قلبًا من لحم... أشكر الله لأنني أشعر بسرور كبير وأنا محاطٌ بمحبة الله. صلِّ من أجلي كيلا أقع أو أخور أو أيأس عند التجربة." هذا هدسون تيلور، المرسل إلى الصين أدرك أنه لا شيءَ من دون حضور الله في حياته. هذه هي قوة الروح القدس التي تملأ نفسه وكيانه حتى يقدر أن يثبتَ ويستمر ويواجه الصعوبات والضغوطات.
نعم، اختبارات الحياة الأليمة تجعلُنا نفتش عن معنى الوجود وسرِّه، وسر الحياة وعمقها ومغزاها. فسليمان الحكيم وبعد أن اختبر كلَّ شيء فيها تأكد أنَّ الكل باطل وقبض الريح إذا كان الإنسان بعيدًا عن الله واهب الحياة ومانح العزاء ومعطي الأمل والرجاء. لهذا قال:
"فلنسمع ختام الأمر كله: اتَّقِ الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله." (جامعة 13:12)
عندها وعندها فقط، يرفع الله النفس المنحنية ويمنحها أملًا ورجاءً وأمانًا واستقرارًا حقيقيًا. سر الوجود ومغزى الحياة هو أن يكون لها معنى وهدف ليس بمعزل عن الخالق واهب الحياة، وعن الرب يسوع المسيح الابن الوحيد والمخلص الفريد الذي أتى ليمنحنا حياة وحياة أفضل. (يوحنا 10:10)