Voice of Preaching the Gospel

vopg

الدكتور صموئيل عبد الشهيدقرأت في تأملاتي الصباحية فقرة تركت في نفسي أثرًا بليغًا إذ وردت فيها هذه العبارة: نعمة ربنا المتفاضلة التي يغدقها على خاصته تتجلّى بكل ضيائها في هذا القول: "وأنه ظهر لصفا." (1كورنثوس 5:15)

قد نعجز عن إدراك عمق مغزى هذه العبارة إن كنّا نجهل خلفيّة هذا الحدث الذي يرتقي إلى الليلة التي قُبض فيها على المسيح. ففي تلك الليلة الليلاء التي مارس فيها الرب يسوع فريضة العشاء الربّاني وأطلع تلاميذه عما ينتظره من آلام وموت، وقف بطرس متبجّحًا كعادته وقال له: "وإن شكّ فيك الجميع فأنا لا أشكّ أبدًا." (متى 33:27)
وقد ترددت هذه العبارة أيضًا في إنجيل مرقس 29:14، كما جاء في إنجيل لوقا 31:22-34 قول الوحي، "وقال الرب: سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكنّي طلبت من أجلك لكيلا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبّت إخوتك. فقال له: يا ربّ إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت. فقال (يسوع): أقول لك يا بطرس، لا يصيح الديك اليوم قبل أن تنكر ثلاث مرّات أنك تعرفني." لقد اختصّ المسيح بطرس بهذا التحذير لأنه كان مطّلعًا على خفايا ضعفاته ونقائصه.
كانت هذه هي الخلفيّة التي أرعبت بطرس بعد وقت قصير لاحق في أثناء محاكمة المسيح، وهو أمر لم يتوقّعه بطرس حين كان مع بقية التلاميذ في العليّة عند ممارسة العشاء الرباني. ولعلّ بطرس لم يكن آنذاك ينتظر تواتر الأحداث بمثل هذه السرعة أو حتى إمكانية وقوعها. ولربما تساءل في نفسه: هل يمكن لهذا المسيح الذي شهد بأمّ عينيه عظمته وبهاء مجده على جبل التجلّي، والذي اجترح كل المعجزات حتى إقامة الأموات، وإخضاع الطبيعة لسلطانه أن يموت صلبًا كأيّ مجرمٍ زنيمٍ؟ كانت هذه الصورة الرهيبة بعيدة عن ذهنه كل البعد، مع أن المسيح سبق له فأنبأ بها في أكثر من موضعٍ معلنًا له ولسائر التلاميذ أنه ينبغي لابن الإنسان أن يتألّم ويُصلب ويموت ثمّ يقوم في اليوم الثالث غالبًا منتصرًا.
لقد تعذّر على بطرس وبقية التلاميذ استيعاب هذه الحقائق لأن الرؤيا التي تولّدت في قلوبهم، وعقولهم، وخيالهم عمّن هو المسيح وما هي المهمة المنوطة به، كانت تتناقض مع حقيقة الحدث المرعب الذي سيلمّ به.
فجأة، في تلك الليلة المأساوية وقعت الكارثة التي كانوا يتجاهلونها ويستنكرونها، والتي أرهبت وأفزعت جميع التلاميذ. كان بداية مسرحها في بستان جثسيماني إذ فيه حدث أمران مهمان جدًّا:

أولًا: عدم سهر التلاميذ
غلبة النعاس على التلاميذ ونيامهم عندما كان عليهم "أن يسهروا" كما أوصاهم سيدهم. تطلّع يسوع أوّلًا إلى بطرس المدّعي وخاطبه بصوت ينمّ عن التأنيب والحزن: "يا سمعان، أنت نائم! أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟" ثم قال لبقية التلاميذ: "اسهروا وصلوا لئلّا تدخلوا في تجربة."
كانت مناداة المسيح لبطرس للمرة الثانية في تلك الليلة "بسمعان" تحمل في طيّاتها عتابًا وإشعارًا مبطّنًا بما سيقدم عليه بطرس من مواقف مخزية لا تعرب عن مستوى الاسم الجديد "بطرس" أي الصخرة، الذي أطلقه عليه المسيح في إنجيل متّى 16: 18. ولست أدري إن كان بطرس قد أدرك مدلول هذا العتاب، وذكّره بالوعد الذي تعهّد به أن يذهب مع المسيح للسجن أو الموت إن اقتضت الضرورة.

ثانياً: رعونة بطرس
وإقدام بطرس الأرعن على استخدام سيفه دفاعًا عن سيده. لا ريب أن بطرس في تلك اللحظة كان يحاول أن يثبت بطريقة هوجاء شجاعته وولاءه للمسيح مع أنه شاهد قوة المسيح تتجسّد أمام ناظريه منذ لحظات قصار. لكن كما يبدو، إن تأنيب الضمير لشعوره بالذنب، وتهوّره جعلاه يقوم بهذه المجازفة غير المجدية التي قد تعرّض حياة بقية التلاميذ لخطر الموت.
وفي خلال ساعات محاكمة المسيح المجحفة، انسلّ بطرس إلى داخل دار رئيس الكهنة، إذ يشير الكتاب المقدس إلى أنه قد تبع المسيح من بعيد بعد القبض عليه. وفيما كان جالسًا مع الخدام يستدفئ عند النار (إنجيل مرقس 54:14)، واجه أزمة الولاء التي كان يباهي بها، وأنكر سيده علانية ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك مرّتين، تمامًا كما أنبأ المسيح. لا شكّ أن الرعب قد اعتراه إذ لا بدّ أن صدى تلك النبوءة قد شرع يضجّ في أعماقه كهزيم الرعد القاصف إذ يقول الكتاب المقدس، فتذكّر بطرس كلام يسوع الذي قال له: "إنك قبل أن يصيح الديك مرّتين تنكرني ثلاث مرّات." (مرقس 72:14) ويضيف إنجيل لوقا في سياق هذه الحادثة عبارة خاصة لم ترد في الأناجيل السابقة: "فالتفت الرب ونظر إلى بطرس" بعد صياح الديك مرتين.
كانت تلك اللفتة هي التي قلبت حياة بطرس رأسًا على عقبٍ. فماذا رأى بطرس في عينيّ المسيح في تلك اللحظة؟
أقول بادئ ذي بدء، ليس في وسع أي عقل بشريٍّ أو أيّ ريشة فنّان عبقريٍّ أن يلخّص أبعاد تلك اللفتة أو النظرة التي ألقاها المسيح على بطرس في تلك اللحظة المأساوية التي كان فيها المسيح عرضة لأشد صنوف العذاب. لم تكن تنمّ عن اتهام، أو غضب، أو استنكار، أو حقد ونقمة، بل كانت تنبض بالرأفة، والشفقة، والحنان، والمحبّة مشوبة بالحزن، والرثاء، على حالة بطرس المتردية. ويخيّل إليّ أن المسيح تناسى حينذاك كل ما يقاسيه من آلام مبرّحة، لا فرق في ذلك إن كانت نفسيّةً، أو عاطفيّة، أو جسديّة، كي يبلّغ بطرس بتلك النظرة عمق محبته واتّساع غفرانه خشية أن يكون مصيره كمصير يهوذا الإسخريوطي الذي شنق نفسه بعد أن خان سيده وسلّمه إلى أعدائه. وفي الواقع، عندما أنبأ المسيح بطرس مسبقًا عن موقف "النكران" الذي سيتّخذه منه، أضاف عبارة خاصة لم ترد أيضًا إلّا في إنجيل لوقا 32:22، "وأنت متى رجعت ثبّتْ إخوتك". غير أن بطرس، كما يبدو، لم يعِ آنئذ معنى هذه العبارة وأهميتها بل ربما أغفلها. ولم يدرِ أن المسيح من فرط محبته قد غفر له خطيئة إنكاره وعدم ولائه حتى من قبل أن يتمّ القبض عليه أو ينكره. ففي قوله "وأنت متى رجعت ثبّتْ إخوتك" إقرارٌ صريحٌ من المسيح بأن بطرس بعد هذا الحدث المخزي سينقلب على ذاته ويصبح إنسانًا جديدًا. وأكثر من ذلك، فإن المسيح قد اختصّ بطرس في صلاته بطلب مدهش من الله لكي لا يضعف إيمانه إذ قال له: "ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك." (لوقا 32:22) وكأنما المسيح في هذه العبارة قد عبّر عن حقيقة مشاعره نحو بطرس وكأنه يقول له: "ومع أنك ستنكرني يا بطرس فإنني سأظل واثقًا بك ولن أتخلى عنك." ولا ريب أن بطرس في تلك اللحظة التي التفت إليه المسيح ترجّعت في مخيّلته أصداء هذه العبارات جميعها فحطّمت في أعماقه كل نوازع الغرور، والتّفاخر الجسدي، والشعور بالتفوّق، وكما يقول لوقا في 63:22 "فخرج بطرس إلى خارج وبكى بكاءً مرًّا،" ندمًا وتوبة. وفي الوقت عينه، كان هذا الموقف درسًا بليغًا لبطرس يتحرر فيه من غروره وتبجّحه ويدرك إدراكًا واعيًا مناحي الضعف فيه ويعترف بنقائصه. أجل، يا لرحمة المسيح التي تفوق كل فهم!

بعد القيامة
لم تكن لفتة المسيح إلى بطرس هي المشهد الأخير في علاقته به بل كانت مستهلّ بداية جديدة في حياة بطرس وتطوّره الروحي إذ لم تتوقّف وشائج الصلة بينهما. فالمسيح الذي هتف على الصليب قبل أن يستودع روحه بين يدي الآب السماوي قد "أكمل"، تابع مسيرته مع بطرس في ذات يوم القيامة. فها هو يحمّل النساء اللواتي جئن إلى القبر في مطلع الأسبوع، بلسان الملاكين، رسالة مذهلة: "اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس: إنه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه." (مرقس 7:16) كما أن بطرس كان الأول بين شهود القيامة من التلاميذ الرجال الذين التقى الرب المقام بهم وإن تلفّع هذا اللقاء بالصمت فلا نعرف شيئًا عما دار بينهما من حوار. غير أن أمر هذا اللقاء شاع بين التلاميذ فأعلنوه للذين انضموا إليهم في مساء يوم القيامة قائلين: "إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان" (إنجيل لوقا 34:24). وعندما اجتمع المسيح مع تلاميذه على شاطئ بحر الجليل اختص بطرس بخطابه ليعيد إليه الثقة بمكانته منه وإعرابًا أصيلًا عن صفحه ومحبته. وهذا ما يفعله المسيح حقًّا مع كل من يلجأ إليه تائبًا.

المجموعة: أذار (مارس) 2018

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

115 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10477130