قالت الجارية لمولاتها: "يا ليت سيدي أمام النبي الذي في السامرة، فإنه كان يشفيه من برصه... فجاء نعمان بخيله ومركباته ووقف عند باب بيت أليشع. فأرسل إليه أليشع رسولاً يقول: اذهب واغتسل سبع مرات في الأردن، فيرجع لحمك إليك وتطهر." (2ملوك 3:5، 9-10)
كان نعمان رئيسًا لجيش أرام، وقد حظي بمكانة عظيمة لديه من جراء ما أصاب من انتصارات عسكرية ضدّ أعداء المملكة، إلا أنه كان مبتليًا بداء البرص. وكان هناك جارية صغيرة وقعت أسيرة في أيدي الأراميين عندما قاموا بإحدى غزواتهم لأرض إسرائيل، وأصبحت خادمة في قصر هذا القائد العسكري الرفيع الشأن. فأشارت على مولاتها قائلة: "يا ليت سيدي أمام النبي الذي في السامرة فإنه يشفيه."
إن بداية كل حدث كلمة قد تصدر أحيانًا عن غير قصد، أو قد تكون نتيجة لإرشاد إلهي لتحقيق هدف روحي، أو لحلّ مشكلة ما، أو تكون سبب بركة لآخرين. ونرى هذه الحقيقة ظاهرة في قصة نعمان السرياني الذي كان قد يئس من البرء من مرض البرص. ولا ريب أنه لم يفكّر لحظة عابرة أن هذه الفتاة الصغيرة الأسيرة الغريبة في أرض أعداء أُمتها أنها ستكون سبب شفائه من هذا الداء العياء. وفي موقف هذه الفتاة درس بليغ لكل مؤمن ومؤمنة أُلخّصه بعبارة واحدة هي: "إن الظروف مهما كانت قاسية وأحيانًا مرعبة لا يجب أن تمنع المؤمن عن الشهادة." لأن شهادتنا للمسيح لا تتوقَّف على الأحوال المحيطة بنا، بل تتوقَّف على مدى استعدادنا أن نكون أمناء لمن افتدانا على الصليب ولا نسمح للظروف أن تعيقنا عن الكرازة بكلمة الإنجيل وبشرى الخلاص التي تجسّد من أجلها المسيح. فقد كان فادينا فوق الظروف، وفوق تقلّبات الحياة، فغلب وشرّع من أجلنا مصاريع السماء.
ولكن شهادة هذه الفتاة الصغيرة لم تكن سوى الخطوة الأولى في حدث شفاء نعمان، إلا أنها تكشّفت أيضًا عن الصراعات الداخلية التي يمكن أن يتعرّض لها المرء عندما يقبل إلى معرفة الإله الحقيقي الذي يستطيع أن يبرئ الإنسان ليس فقط من أمراضه الجسدية بل أيضًا من أمراضه الروحية. والواقع أن ما جرى مع نعمان السرياني من تغيير وشفاء كان له أبعاده الروحية والجسدية أيضًا.
وأودّ هنا أن أعرض إلى الأحوال أو المشاعر الذاتية في تحوّلاتها، وثورتها، وخضوعها لنزواتها، ومثل هذه التحوّلات تلعب دورًا كبيرًا في مواقف الإنسان من نفسه، ومن الآخرين وأحيانًا من الله. وفي الواقع، هذا ما حدث مع نعمان السرياني. إن أول ما فعله هذا القائد العسكري هو:
1- استئذان الملك بالذهاب
لقد تحوّلت القضيّة منذ البداية إلى قضية سياسية لأن العداء في أساسه كان مستشريًا ما بين أرام وإسرائيل. وقد جاء في الرسالة التي حملها نعمان إلى يهورام ملك إسرائيل هذه العبارة: "فالآن عند وصول هذا الكتاب إليك، هوذا قد أرسلت إليك نعمان عبدي، فاشفه من برصه." (ع 5-6) إن هذه العبارة تتسم بنبرة الأمر التي تعبر عنها لفظة "فاشْفِهِ."
أحسّ يهورام من نصّ هذه الرسالة كأن ملك أرام يحاول أن يجد عذرًا لمهاجمة إسرائيل من جديد، لأن مرض البرص لم يكن له علاج ناجع حينذاك، "فمزّق ثيابه وقال: هل أنا الله لكي أميت وأحيي، حتى إنَّ هذا يرسل إليّ أن أشفي رجلاً من برصه؟ فاعلموا وانظروا أنه إنما يتعرّض لي." (7:5)
2- شراء الشفاء بالمال
قبل أن يغادر نعمان بلده في طريقه إلى إسرائيل حمل معه "عشر وزنات من الفضة، وستة آلاف شاقل من الذهب، وعشر حلل من الثياب." (5:5) لقد حاول نعمان أن يشتري شفاءه من البرص بالمال. ولا عتب عليه في ذلك، فهو شديد اللهفة لكي يبرأ من الداء المميت بأي ثمن، وكان مستعدًا أن يبذل كل شيء في سبيل إنقاذ حياته من الموت. ولكنه أخطأ في قراره لأن الفتاة الصغيرة أشارت في كلامها إلى النبي أليشع وليس إلى ملك إسرائيل. لأن عمل شفائه هو عمل إلهيّ وليس عملاً ملكيًا، وليس للمال أي دخل في معالجة هذا الداء. والحقيقة أنه أخطأ أولاً في ذهابه إلى الملك بدلاً من أن يذهب إلى بيت النبي، وثانيًا لأنه ظنّ أن نبي الله يمكن إرضاؤه بالمال والهدايا لكي يقوم بمعالجته. أوليس هذا ما يحدث مع كثيرين من الناس الذين يعتقدون أن خلاصهم الأبدي متوقّف على أعمالهم الحسنة بغض النظر عن نوعيتها؟ لقد أساء نعمان في اتخاذه ذلك الموقف الذي لا يجدي في معاملات الرب لنا.
3- غضب نعمان من موقف أليشع
لقد سمع النبي أليشع بمجيء نعمان، وارتياع الملك يهورام من مطلب الملك آرام وسخطه. فأرسل أليشع إليه قائلاً: "لماذا مزّقت ثيابك؟ ليأتِ إليّ فيعلم أنه يوجد نبيّ في إسرائيل." (8:5)
وما لبث أن جاء نعمان بخيله ومركباته ووقف عند باب أليشع. ولعلّه آنئذ تذكر قول الفتاة الصغيرة أنَّ النبي - وليس الملك - هو الذي يستطيع أن يبرئه. ولكنه إذ أقبل إلى بيت أليشع أصابه الذهول والغضب. فقد ظنّ أن النبي سيخرج إليه، ويرى ذهبه وفضته وعظمته فيقف أمامه "ويدعو باسم الرب إلهه، ويردّد يده فوق الموضع فيشفي الأبرص." (11:5) ولكن أليشع لم يخرج إليه ولم يستقبله، بل أرسل إليه رسولاً يقول: "اذهب واغتسل سبع مرات في الأردن فيرجع لحمك إليك وتطهر." (10:5) لشدّ ما شعر نعمان بالإهانة، واضطرام الغيظ في قلبه؛ لقد جاء محمّلاً بالهدايا، وبرسالة خاصة من ملكه - وهو الشخصية المرموقة - وهذا النبي لا يكلّف نفسه مؤونة الخروج إليه والترحيب به، وإكرامه بل يأمره أن يغتسل بماء نهر الأردن فيبرأ. فثار غضبه وقال بحدَّة: "أليس أبانة وفرفر نهرا دمشق أحسن من جميع مياه إسرائيل؟ أما كنت أغتسل بهما فأطهر؟" إن موقف نعمان هذا هو صورة حية عن معظم الناس الذين يستنكرون خطة الله للخلاص، ويريدون أن يحصلوا على الحياة الأبدية وفق ما يرتؤونه مناسبًا. وهكذا كادت كبرياء نعمان أن تحول بينه وبين شفائه الذي ذكره النبي أليشع.
4- الاتضاع أمام الحقيقة
همّ نعمان أن يرجع إلى دمشق غاضبًا، وقد كان في الإمكان أن تسفر هذه العودة الفاشلة عن إثارة حرب جديدة بين المملكتين، غير أن عبيده، ولعلّ رئيس عبيده هو الذي تجرّأ وخاطبه قائلاً: "يا أبانا (وهي لفظة تكريم وتبجيل ومودّة)، لو قال لك النبي أمرًا عظيمًا، أما كنت تعمله؟ فكم بالحري إذا قال لك: اغتسل واطهر؟ فنزل وغطس في الأردن سبع مرات، حسب قول رجل الله، فرجع لحمه كلحم صبي صغير وطهر." (13:5-14)
لشدّ ما يحاول الإنسان أن يسلك في سبله المعوجّة ليحقق أهدافه الروحية ولكنه دائمًا يبوء بالفشل. إن مساعينا التي نعتمدها وخططنا التي نرسمها للخلاص إن لم تكن حسب الفكر الإلهي الذي تجسد في المسيح على صليب الجلجثة فإنها جميعًا لا تجدي نفعًا.
لو ظلَّ نعمان السرياني مصرًّا على موقفه، متمسّكًا بكبريائه، متعسّفًا في رأيه، لعاد إلى دمشق، وإلى ملكه خائب الأمل، أبرص يتأكَّل المرض جسده، ومن ثم يلقى حتفه في وقت قصير.
هناك طريق واحدة للنجاة من عذاب الأبدية. إنها طريق الجلجثة والاغتسال بدم المسيح المسفوك الذي يطهرنا من كل خطية، فهل تأتي إليه؟