كلما قرأت ذلك المزمور العجيب الغريب، المزمور 137، أكتشف أكثر فأكثر، كيف أن الإنسان يقاوم الفكر الإلهي دائمًا، لكي يثبت أفكاره الشخصية، ويلوم الله ضمنًا على تدابيره العادلة وعلى عقابه الحكيم.
وما ذلك إلا دليل على عدم قدرة الإنسان الطبيعي على فهم مقاصد الله، وإدراك طرقه التي ترقى عن الفحص وتسمو على الاختبار. وهذا ما أعلنه السيد الرب بقوله: "لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي، يقول الرب. لأنه كما علت السماوات عن الأرض، هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم." (إشعياء 8:55-9) فما الذي حدث فجأة على أنهار بابل، حتى علّق المرنمون أعوادهم على الصفصاف، وصمت صوت الترنيم وبطل الهتاف؟! ففي المزمور كله لا توجد كلمة حمد واحدة!
كان ذهاب هؤلاء إلى بابل في السبي عقابيًا، على أعمالٍ اقترفها الشعب القديم ضاربًا بعرض الحائط كل تحذيرات الله وإنذاراته. وما تمتّعهم بتلك الحرية في بلاد السبي إلا دليل قاطع على رحمة الله العظيمة حيث أنه لم يغلق جميع أبواب رحمته، بل حفظهم وخفّف من أغلال سبيهم! حتى أعادهم في الوقت المعين. وعاقب الذين ظلموهم، حيث سقطت مملكة بابل العظيمة في ليلة واحدة، على أيدي رجال مادي وفارس، التي أمر حكامها بإعادة من يريد من المسبيّين وتشييد بناء المدينة المقدسة وهيكلها من جديد. وبالعودة إلى نص المزمور فإننا نتأمل في النقاط التالية:
1- عزائم خائرة: لقد خارت عزائم النخبة فأوقفوا الموسيقى وصمتوا عن الترنيم حتى أن منهم من علّقوا أعوادهم دليلاً على الخيبة والانحناء والهزيمة؟! فكيف حال العامة من المسبيين آنذاك؟! لا شك أنهم كانوا أسوأ حالاً وأكثر يأسًا وقنوطًا، إلا قلة نقرأ عنهم في متن بعض الأسفار. ولا شك أن كثيرين منهم نسبوا ذلك الفشل للرب لعدم قدرته المزعومة على حماية شعبه، غير ناظرين إلى الحقيقة ومتناسين القول الإلهي: "يا ابني، لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخه، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، وكأبٍ بابنٍ يسرُّ به." (أمثال 11:3-12) وقد اقتبسه كاتب رسالة العبرانيين في 5:12-6 وقد نسوا قول أيوب الصديق رغم تجربته القاسية، حيث يقول عن الله: "لأنه هو يجرح ويعصب. يسحق ويداه تشفيان." (أيوب 18:5) فقد كان على أولئك المرنمين بدلاً من أن يُضربوا عن العزف والترنيم أن يضرموا حلبة الهتاف والحمد والتسليم. فهم يشرحون سبب توقفهم: "لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذّبونا سألونا فرحًا قائلين: "رنموا لنا ..." (ع 3) يا لها من فرصة سانحة لا تعوّض! فبولس وسيلا ربحا سجان فيلبي الذي أوهنهما جلدًا وضربًا بالعصي، وضبط أرجلهما بالمقطرة وألقى بهما في السجن الداخلي، ربحاه مع كل بيته للمسيح. إذ كان رغم جراحهما النازفة يصلّيان ويسبحان الله في منتصف الليل والمسجونون يسمعونهما كما السجّان أيضًا (أعمال 16). وربما ذلك لأن مؤمني العهد القديم كانوا يعتقدون أن بركات الله لهم هي بركات أرضية فقط متعلقة بالنسب والعشيرة. حيث منعتهم عنصريتهم حتى عن التفكير بدعوة الآخرين لمعرفة الله! ولذا فقد فرّقهم في الشعوب لكي يحقق مقاصده من خلالهم وهم لا يعلمون!
2- ذكريات قاصرة: لقد تذكّر هؤلاء المرنمون المحنة التي حلّت بهم وبمدينتهم وهيكلهم: "بكينا أيضًا عندما تذكرنا..." (ع 1ب) فقد قرروا الحزن والبكاء الآن، وقد نسوا تمامًا أن الله كان قد طلب منهم أن يبكوا بكاء التوبة قبل توقيع هذا العقاب عليهم. فرفضوا بكل إصرار. يقول الوحي المقدس: "وَدَعَا السَّيِّدُ... إِلَى الْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ وَالْقَرَعَةِ وَالتَّنَطُّقِ بِالْمِسْحِ، فَهُوَذَا بَهْجَةٌ وَفَرَحٌ... «لِنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ، لأَنَّنَا غَدًا نَمُوتُ.»" (إشعياء 12:22-13)
وقد نسوا أيضًا تحذيرات الرب من التمادي بإغاظته بأصنامهم ومنها قوله: "[فَأَسْبِيكُمْ إِلَى مَا وَرَاءَ دِمَشْقَ» قَالَ الرَّبُّ إِلهُ الْجُنُودِ اسْمُهُ." (عاموس 27:5)
ويخبرنا سفر أخبار الأيام الثاني عن ذلك بقوله: "حَتَّى إِنَّ جَمِيعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشَّعْبِ أَكْثَرُوا الْخِيَانَةَ... وَرَذَلُوا كَلاَمَهُ وَتَهَاوَنُوا بِأَنْبِيَائِهِ حَتَّى ثَارَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى شَعْبِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ شِفَاءٌ. فَأَصْعَدَ عَلَيْهِمْ مَلِكَ الْكِلْدَانِيِّينَ فَقَتَلَ مُخْتَارِيهِمْ بِالسَّيْفِ... وَلَمْ يَشْفِقْ عَلَى فَتًى أَوْ عَذْرَاءَ... بَلْ دَفَعَ الْجَمِيعَ لِيَدِهِ. وَجَمِيعُ آنِيَةِ بَيْتِ اللهِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ... أَتَى بِهَا جَمِيعًا إِلَى بَابِلَ." (2أخبار 14:36-18)
3- نفوس ثائرة ثورة الغضب، وثورة الحقد، وثورة التشفّي: "يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُخْرَبَةَ، طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا!" (ع 8 و9) عندما تثور النفس البشرية، فهي لا تدع فرصة لأذرع الرب الحانية أن تحتضنها بالمواعيد والتعزيات الثمينة. بل تمضي في صبّ جامات غضبها البشري التي لا تجدي بل تأتي بنتائج عكسية. تقول الكلمة الإلهية: "لاَ تَفْرَحْ بِسُقُوطِ عَدُوِّكَ، وَلاَ يَبْتَهِجْ قَلْبُكَ إِذَا عَثَرَ، لِئَلاَّ يَرَى الرَّبُّ وَيَسُوءَ ذلِكَ فِي عَيْنَيْهِ، فَيَرُدَّ عَنْهُ غَضَبَهُ." (أمثال 17:24) وتقول أيضًا: "إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ خُبْزًا، وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ مَاءً، فَإِنَّكَ تَجْمَعُ جَمْرًا عَلَى رَأْسِهِ، وَالرَّبُّ يُجَازِيكَ." (أمثال 21:25-22)
وقد أوصى الرب الشعب القديم عند خروجه من مصر قائلاً: "إِذَا صَادَفْتَ ثَوْرَ عَدُوِّكَ أَوْ حِمَارَهُ شَارِدًا، تَرُدُّهُ إِلَيْهِ. إِذَا رَأَيْتَ حِمَارَ مُبْغِضِكَ وَاقِعًا تَحْتَ حِمْلِهِ وَعَدَلْتَ عَنْ حَلِّهِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ تَحُلَّ مَعَهُ." (خروج 4:23-5) وقد قال الرب على لسان إرميا النبي: "وَاطْلُبُوا سَلاَمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي سَبَيْتُكُمْ إِلَيْهَا، وَصَلُّوا لأَجْلِهَا إِلَى الرَّبِّ، لأَنَّهُ بِسَلاَمِهَا يَكُونُ لَكُمْ سَلاَمٌ." (إرميا 7:29)
فهذه هي الأخلاق التي تطلبها كلمة الله في العهد القديم، وليس هناك من مكان للانتقام والتشفّي! لكن، قد يقول أحدهم: إذًا فلِمَ توجد وصية تقول: "عين بعين وسن بسن..."؟ إن المشكلة هي في فهم كلمة الله ومعرفة مقاصد القدوس. فإن الآية المشار إليها لا يقصد بها الرب إنفاذ الإنسان حقده على الآخر. بل هي قاعدة قانونية يعمل بها القضاة ليحكموا بالعدل في الأمور التي تُعرض عليهم، فتكون هناك خشية من اعتداء الإنسان على غيره. فالآية كما وردت بالنص كما يلي: "وَيَسْمَعُ الْبَاقُونَ فَيَخَافُونَ، وَلاَ يَعُودُونَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذلِكَ الأَمْرِ الْخَبِيثِ فِي وَسَطِكَ. لاَ تُشْفِقْ عَيْنُكَ. نَفْسٌ بِنَفْسٍ. عَيْنٌ بِعَيْنٍ. سِنٌّ بِسِنٍّ. يَدٌ بِيَدٍ. رِجْلٌ بِرِجْلٍ." (تثنية 20:19-22)
عزيزي القارئ الكريم،
إن الميزة الرائعة لهذا الكتاب العظيم "الكتاب المقدس" هي أنه يذكر جميع الأقوال والأفعال كما هي بكل دقّة، وبدون أي تزييف أو تجميل، لكي نستطيع التمييز بين الغث والسمين على ضوء نصوصه النقيّة فهو يدوّن التصرفات الحسنة لكي نقتدي بها، والتصرفات السيِّئة لكي نتجنّبها، وهو يعلن بكل صدق عن أفكار الله من نحونا.
1- فلا نلومنّ الله إذا كنا نحصد ما زرعناه، لأنه صالح وإلى الأبد رحمته، وحينما نتّعظ ونتوب فإنه لا يحجب وجهه عنا. كما تقول الآية الكريمة: "يَعُودُ يَرْحَمُنَا، يَدُوسُ آثَامَنَا، وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ." (ميخا 19:7)
2- ولا نحقد على الآخرين لإيذائهم بل لنصفح ونساعد حتى الأعداء كما تقول الكلمة الإلهية في العهد القديم، وقد رفّع الرب يسوع هذه الوصايا إلى قمة كمالها. بقوله: "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ." (متى 43:5-44)
وليكن للرب كل المجد إلى الأبد، آمين!