عندما نَتَفَحّص بالتدقيق أُسلوب الكتابة للرسول يوحنا تلميذ الرب يسوع المسيح، نلاحظ أنه يضع أمامنا حقيقتين متناقضتين: النور والظلمة، الحياة والموت، المحَبّة والبغضة، الحرية والعبوديّة؛
ثم يُبيّن فكرتين مُختلفتين: التديّن ومعرفة الله؛ ونظامين مختلفين: الناموس والنعمة؛ كما يقارن شخصيتين على طرفي النقيض: المولود أعمى ورجال الدين، الراعي الصالح والسارق... والهدف من كل أصحاح هو استعلان يسوع ابن الله.
ففي الأصحاح الأول والأعداد الـ ١٤ الأولى يضع أمام بصيرتنا إعلان الله عن نفسه أنه النور مفارقة بالأفكار الخاطئة، أي الظلمة التي يتخيلها الكثيرون بجهل عن الله. ونقرأ عن الكهنة واللاويين - رجال الدين - الذين رجعوا إلى أورشليم للتمسك بهيكل حجري دون أن يعرفوا من هو يسوع؟ أما التلاميذ فعرفوا ابن الله لأنهم كانوا في علاقة شخصية مع يسوع.
ثم نأتي إلى الأصحاح الثاني فنجد مفارقة بين الأفراح الأرضية، كشرب الخمر، التي تولّد أفراحًا مؤقتة تنتهي بزوال المؤثر، وبين الأفراح التي يهبها الرب يسوع عندما يملأ أجران حياتنا الفارغة بمياه كلمته، فتتحول إلى ينابيع أفراح لا تنضب.
وفي الأصحاح الثالث نجد الوحي المقدس يفتح بصيرتنا إلى المفارقة بين التديّن والولادة الثانية: المولود من الجسد والمولود من الروح. ونجدها في قصة نيقوديموس عندما قال له الرب: "الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله." (يوحنا ٣:٣) وهنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: كم مرة أنا مولود؟ ثم في الأعداد ١٤-٢١ يضعنا الروح القدس أمام قرارات مصيرية: الحياة الأبدية والهلاك الأبدي، محبّة النور أي الإيمان بالمسيح يسوع أنه المُخلّص الوحيد أو رفضه ومحبّة الظلمة.
في الأصحاح الرابع نجد في قصة المرأة السامرية الفارق الشاسع بين عدم الارتواء من التلذّذ بالخطيّة وينابيع الحياة الأبدية التي يهبها الرب يسوع المسيح. فالمرأة السامرية، قبل إيمانها، كانت تعيش بالخطيّة متمسكة بموروثاتها الدينية مثل بئر يعقوب، والعبادة على جبل مُعيّن، لكنها بعدما ارتوت من مياه الحياة الأبدية أصبحت إنسانة جديدة، ينطبق عليها قول الكتاب: "الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا."
عزيزي القارئ، إن كُنتَ ظمئًا، تعال إلى الرب يسوع واستقِ بفرح من ينابيع الخلاص، فما نمتلكه قبل الإيمان هو مجرد جرّة فارغة وعناء قلب!
أما في الأصحاح الخامس فنرى معجزة شفاء مريض بركة بيت حسدا، أي بيت الرحمة، ونجد فيه فرقًا شاسعًا بين اعتماد الإنسان على نفسه أو على الآخرين، وعجزه الكامل لتغيير حالته الميؤوسة، وبين النعمة والشفاء الحقيقي الذي يهبه الرب يسوع.
في الأصحاح السادس نجد المفارقة بين من يتبع يسوع لسد حاجات الجسد وبين من يتبعه لأجل شبع القلب! يسوع هو خبز الله، خبز الحياة الذي يشبع القلب ويهب حياة أبدية. يا للأسف! لأن كثيرين يفكرون بشبع البطن وقليلين يفكرون بشبع القلب.
في الأصحاح السابع نجد مفارقة بين واهب الماء الحي الرب يسوع المسيح الذي يقول: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" وبين الطقوس والفرائض، التي لا تروي عطش الروح، ولا تزيد عن كونها آبارًا مشققة لا تضبط ماء.
وفي الأصحاح الثامن نرى المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل. نرى الروح القدس يظهر لنا الفارق بين فكر المتطرفين التكفيريين الذي لا يرون خطاياهم، وبين من يجد للتوبة مكانًا في قلبه - كتلك المرأة – ونرى أيضًا العفو الذي يمنحه الرب يسوع بقوله لها: "ولا أنا أدينك." لأنه هو دفع أجرة خطايانا في جسده على الصليب، فله حقّ التبرير.
يا لفرحة تلك المرأة التي سمعت قرار العفو عن حكم موتها الأبدي، وسمعت بنصيحة من فداها، "اذهبي ولا تخطئي أيضًا" وبين تعاسة أولئك الذين خرجوا لكيلا يجمعوا أنفسهم معها، فهم خطاة ولكن بدرجة أرقى! خرجوا وضاعت فرصة الرجم والقتل؛ المرأة خرجت ومعها قرار العفو الإلهي، حُكمًا لحياة جديدة: الحياة الأبدية! أما الشيوخ فخرجوا وفي أيديهم حجارة، ولكن في قلوبهم حكم هلاكهم الأبدي!
في الأصحاح التاسع نرى الإرهاب الفكري والخوف من انتقادات الناس الذي دفع بأبوي المولود أعمى ِأن يتكلما بقساوة على ابنهم الذي شفاه يسوع! لم يفرحوا بشفائه، وفضّلوا البقاء في مبنى ديني – المجمع - وعدم الإيمان بالمخلص الوحيد، فيا له من قرار جاهل صادر عن أعميين روحيًا. أما الأعمى الذي شفي، فقد آمن وسجد ليسوع ابن الله الذي يستحق كل كرامة وسجود.
وهنا المفارقة، أن الروح القدس يخاطب كل إنسان عاقل... فهل أرفض الإيمان بالرب يسوع بسبب الإرهاب الفكري الديني، وأخاف انتقادات الجهلاء؟ وأسلم مصيري الأبدي لرجال دين يرهبونني فكريًّا، ولا يعرفون سوى شتمنا وشتم من يفتح بصيرتنا، أو أن أقول بكل افتخار "كنت أعمى والآن أبصر."
يا قارئي، أتمنى فيما أنت تتأمل في إنجيل يوحنا، أن تقف على مفترق الطرق وتختار القرار الصحيح، لأن ابن الله يعلن عن نفسه في كل أصحاح من هذا الإنجيل، والهدف هو أن تؤمن إيمانًا حقيقيًّا وتنال الحياة الأبدية (انظر يوحنا ٣٠:٢٠-٣١). صلّ معي،
يا رب، افتح بصيرتي وأنا أقرأ في كلمتك، وأعلن ذاتك لي لكي أعرفك وأومن بأنك ابن الله الحي.
وإن كنت مؤمنًا، صلِ: يا رب أريد أن أنمو في معرفتك أكثر.