بهذا المقال نجيب عن التساؤل الثاني بين ثمانية من تساؤلات سبق وطرحناها تحت عنوان" حوار مفتوح" سلَّطنا فيها الضوء على هوية المسيح ومن تُرى يكون.
التساؤل الثاني يقول: لماذا تميّز المسيح فتنبّأ عنه دون غيره من سبقه من أنبياء قبل ميلاده بمئات السنين؟ فعرّفوا به وأكدوا على هويَّته بأوضح تعبير، وسلَّطوا الضوء على نواحي هامة في شخصه كما لو كانوا يرونه بالعين المجرّدة، فذكروا اسمه الصريح: [المسيح] كما في سفر دانيآل الأصحاح التاسع، وفي المزمور الثاني لداود، وأنبأوا بوضوح الكلمة عن ولادته من عذراء، كما في سفر إشعياء الأصحاح السابع حيث يقول مخاطبًا شعب التوراة: "ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل."
ويعود إشعياء في الأصحاح التاسع ليوضح للأمة هوية مولود العذراء وما سيحدثه ميلاده فيقول: "لا يكون ظلام للتي عليها ضيق... الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور. أكثرتَ الأمَّة (يا رب). عظَّمت لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد."
هذا الوصف الجميل يدعونا للتساؤل: لماذا كل هذا الفرح والابتهاج أيها النبي إشعياء؟
فيجيب: "لأنه يولد لنا ولدٌ ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسةُ على كتفه."
من الواضح أن المولود المقصود هنا هو مولود العذراء الذي سبق وأشار إليه في الأصحاح السابع. ونعود ونسأل إشعياء من جديد: ما هي هوية هذا المولود القادم؟ ما صفاته؟ فيجيب بكل وضوح: "ويُدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًّا، رئيس السلام."
يا للعجب! أوصاف لا تُعطى لغير الله! مما يعني أن المولود سيكون هو الله متجسِّدًا بهيئة بشر، وسينزل إلى أرضنا متدثِّرا بعباءة إنسان لحكمة هو أدرى بها. وهذا ما أثنى عليه الإنجيل فيما بعد حين قال: "عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد."
نعم، تراءى الله للناس بهيئة إنسان كما تراءى لموسى بشجرة يلفها اللهيب دون أن تحترق! فمال إليها ليفهم تفسيرًا لهذا العجب! فناداه الله من وسطها وقال: "اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة." وهكذا فعل موسى... تقديس المكان كان بسبب حضور الله حين تجلّى بالشجرة.
وفي المقابل، عندما وُلد يسوع في بيت لحم حضر المجوس من بلدان الشرق وسألوا عن المولود، واستدلّوا على مكانه، ودخلوا ورأوا الصبي مع مريم أمه... فخرّوا وسجدوا له! لم يسجدوا لغيره، لأنهم كانوا على علم بمن هو! مع أن الماثل أمامهم هو طفل. لكنهم أدركوا بالروح أنه هو الرب ويستحقُّ السجود، تمامًا كما أدرك موسى حضور الله في الشجرة الملتهبة، فخلع نعليه كعلامة خضوعٍ وسجودٍ لله، وتسلّم حينها النبوّة وخطّة مُحكمة لخلاص شعبه من عبودية فرعون.
وفي مشهد آخر ميخا النبي، نبي جليل من صغار أنبياء العهد القديم، له سفر معنون باسمه من سبعة أصحاحات، تنبَّأَ عن المسيح قبل ميلاده ببضعة مئات من السنين، فكشف بالروح عن أمرين هامين: الأمر الأول، عرَّفَنا بأن ولادة المسيح ستكون في قرية صغيرة هي بيت لحم! ثم أشار بنبوّته إلى هويّة مولود بيت لحم، فقال في وصفه: "ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل!" فمولود بيت لحم بشهادة الوحي على فم ميخا النبي، هو كائن أزلي!
تعالوا نقرأ النبوة كما وردت في الأصحاح الخامس من سفر ميخا، والمتحدِّث هناك هو الله على لسان نبيِّه ميخا فيقول:
"أما أنتِ يا بيتَ لحمِ أفراتَةَ، وأنتِ صغيرةٌ أن تكوني بين ألوفِ يهوذا، فمنكِ يخرج لي الذي يكون متسلِّطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل."
وبدورنا نتساءل: من تُرى يكون الأزلي؟
وميخا هنا نبيٌّ يهوديٌّ وليس مسيحيّ. ميخا عاش قبل الميلاد بزمن طويل. ما تفسير ذلك يا ترى؟ ومن يجرؤ أن يتسلَّل لتوراة اليهود ويزور شيئًا لصالح المسيحية التي ترفضها اليهودية وتُكفِّرها؟!
وتحدّث الأنبياء عن تفاصيل دقيقة عن آلام المسيح المصلوب قبل الصلب بحوالي 750 سنة، وعن قبره ودفنه. وأن آلامه ستكون للتكفير عن خطايا من يلجؤون إليه.
فماذا نقول كمسيحيين أمام هذه البيانات النبويّة الصريحة التي وردت في توراة اليهود قبل ميلاد المسيح بقرون عديدة؟! علمًا أن اليهود لا يؤمنون بالمسيحية، لكن توراتهم كما أشرنا تقرّ بهذه الحقائق.
نحن هنا نتحدّث عن نبوءات في منتهى الوضوح، لا يحتاج الباحث لفهمها إلا صدق المسعى وحسن النوايا. وإن حصل نتوقّع أن يرفع صوته عاليًا ليقول: وجدتها، وجدتها!
ولنفترض أن أحدًا استمرّ يُجادل، وهذا من حقِّه، فنقول له: واصل مسيرة البحث، فالمهمة ليست مجرّد تجميع معلومات... ما هو صحّ وما هو خطأ؛ الموضوع يتعلّق بمصيرك الأبدي. هنا تقع خطورة الإهمال.
والبرهان الذي لا يُرضي الصديق نأتي بعشرات غيره، فكن جادًّا فيما تبحث عنه وستصل.
في الختام استكمالًا للإجابة عن السؤال المطروح في بداية هذه الحلقة نقول:
لا عجب أن يُسلِّطَ الأنبياء السابقون الأضواء على المسيح، فيرصدون سيرة حياته، ومعجزة ميلاده، وطبيعة رسالته، ويتحدّثون مسبقًا عن آلامه الكفّارية وصلبه وقيامته. ذلك لأنه هو الرب. وهم يعرفون هويّته، وبأن لا ربّ سواه. فهو من أرسل الرسل، وأقام الأنبياء، ووضع كلمات النبوة في أفواههم، فكيف لا يكون هو محور حديثهم؟! لذا كان من الطبيعي أن يلهج بذكره كل الأنبياء الذين سبقوا ميلاده تمهيدًا لمجيئه، ولتهيئة الشعوب لاستقباله.