ورد في إنجيل متى 3:24-4 و7-8 هذه الآيات:
"وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلاَمِيذُ عَلَى انْفِرَادٍ قَائِلِينَ: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا؟
وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: [... وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ. وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ.]"
كان الرب يسوع المسيح آنئذ مجتمعًا مع التلاميذ على جبل الزيتون عندما وجّه إليه التلاميذ هذا السؤال التاريخي والرؤيوي عن زمن مجيئه الثاني. فقد كان التلاميذ حتى تلك اللحظة يظنّون أن ملكوت الله العتيد أن يُستعلن لا بُدّ أن يكون قريبًا اعتقادًا منهم أن مجيئه الثاني لا شك أنه سيحدث قريبًا وقد يكون بعد القيامة مباشرة. لم يتوقّعوا أنه كان يشير إلى مجيءٍ بعد امتدادٍ طويلٍ في حياة الكنيسة. ولا ريب أنهم ظنوا في بادئ الأمر، أن مجيئه الذي يتحدّث عنه، هو المجيء الذي كانت الأمة اليهودية تترقّبه بشوق لكي يحرِّرهم من الاستعمار الأجنبي ويعيد لهم أمجاد الملك داود وسليمان.
ولكنني في هذه المقالة أودّ أن أتحدّث عن الفترة السابقة لـ "مبتدأ الأوجاع وقبل وقت المنتهى"، أي عن بعض الأحداث الطارئة التي يخطط لها الله لإنذار البشرية الغارقة في مستنقعات خطاياها، والتي أنكرت وتنكّرت لوجود الله، وخطة الفداء، وأغفلت أن وعود الله هي صادقة وأمينة، ولا شك أنها ستتمّ في الزمن المعيّن. ولقد استخدم الرب في هذه المناسبة بعض العبارات التي تبعث على الرجاء، والتي تجسّد روعة نعمته ورحمته على الإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله. فنراه أولاً يحذّر التلاميذ من الوقوع في أحابيل الضلال: "انْظُرُوا! لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ! وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ." وما أكثر الأنبياء الكذبة الذين ظهروا في سياق التاريخ بعد صعود المسيح إلى السماء إذ يقول: "وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ." (عدد 11) وهذا تحذير خطير للمؤمنين أولاً، ولغير المؤمنين أيضًا إذ أن ظهور أنبياء كذبة لم يتوقّف عبر التاريخ.
بيد أن السؤال الكبير هو ما ستتعرّض له البشرية من تكاثر الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية التي ستعمّ المسكونة بأسرها والتي تستهدف التحذير والإنذار، فقبل مجيء الرب يسوع ستقع: حروب ومجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن. وكذلك تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، "ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع."
وأريد أن أتوقّف عند هذه العبارة: "ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع."
بادئ ذي بدء، نحن لا نعرف شيئًا عن المدى الزمني لكل هذه الأحداث التي أشار إليها الرب يسوع، لأنه يقول أيضًا: "اُنْظُرُوا، لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلُّهَا، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ." (عدد 6) إذًا، ما هو الغرض من حدوثها؟ أقول:
أولاً: إنها للإنذار والتحذير
فالرب الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله يوفّر له الفرصة وينذره محذِّرًا بأن وقت مجيئه بات قريبًا، وقد تكون هذه هي فرصته الأخيرة للنجاة من الهلاك الأبدي. وهذا ليس بالأمر الجديد، فقديمًا وقبل حدوث الطوفان أعطى الإله الخالق العادل للإنسان فرصة مئة سنة في أثناء بناء الفلك لكي يرتدع الناس عن شرّهم، ويرجعوا إليه، ولكنهم سخروا من الله ومن إنذارات رسوله نوح إليهم، وأبَوْا جميعًا الانصياع إلى دعوة الله والتوبة عن إثمهم وفجورهم، وربما ظنّوا أن نوحًا قد أصابه الجنون لأن الناس قبل كارثة الطوفان، لم يروا سماء تمطر ولا تفجّرًا رهيبًا للانهار والينابيع والعيون، كما حدث آنئذٍ، ولكن عندما نزل غضب الله على أبناء المعصية وأغلق باب الفلك، فاتتهم فرصة النجاة وهلكوا جميعًا.
ثانيًا: تحذيرات الرب هي رحمة
فقد قام حوار رائع بين الله وإبراهيم حول مصير هاتين المدينتين - سدوم وعمورة - وكان لدى الرب الاستعداد الكامل أن يمهلهما لو وجد فيهما عشرة أبرار. ولكن لسوء الحظّ، لم يكن هناك عشرة أبرار يتّقون الله فأهلكهما، وإن أنقذ بعضًا من أسرة لوط، فالله حقًا لا يشاء موت الخاطئ بل يرغب بفضل قلبه المحبّ أن يرجع هذا الإنسان الضالّ عن شرّه ويحيا.
لقد أكمَلَ الرب خطة الخلاص الوحيدة التي يمكن فيها للإنسان أن ينجوَ من الغضب الآتي، ولكن عجرفة الإنسان ونزعات قلبه الشريرة أبت عليه أن يأتي إلى الصليب، حيث يجد كفارة لآثامه، ويتبرَّر بالدم المسفوك من جميع خطاياه.
كانت الفرصة متاحة لكلٍّ من أهل سدوم وعمورة لينجوا جميعًا من العقاب الإلهي لأن شرّهم قد اكتمل، ولكنهم احتقروا نعمة الله، ورفضوها. بالنسبة إليهم صدر عليهم حكم الله النهائي كما صدر على أهل الطوفان.
ثالثًا: وقاية الله للأتقياء
والسؤال الآن: لماذا يتعرّض الأبرار والمؤمنون إلى مصائب هذا الدهر؟ وكما يقول إنجيل متى 9:24 "حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيق وَيَقْتُلُونَكُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي. وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا... وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ."
وفيما يلي، سأحاول أن أكون موجَزًا في ذكر الأسباب الداعية إلى ذلك:
الاضطهادات تنقّي الحنطة من الزوان إذ تكشف زيف مدّعي الإيمان.
تبرد في هذه الأثناء محبة الكثيرين لأنها تكون كالبذار التي نُثرت بين الأشواك فيُضِلّون ويُضَلّون.
إن الاضطهادات، وفي أثناء الظروف الصعبة "يُكرز ببشارة الإنجيل لجميع الأمم" (عدد 13)، أي في كل المسكونة على الرغم من العوائق الدينية، والاجتماعية، والسياسية والظروف القاسية.
وفي مثل هذه الأوضاع يلقَى مئات من ألوف المؤمنين حتفهم على أيدي مضطهدي اسم المسيح، ويتعرّضون لصنوف العذاب والشقاء، ولكن مآلهم جميعًا إلى حياة أبدية مع المسيح.
كذلك يقاسي جمهور غفير من أبناء الملكوت كثرة من مآسي الحياة، مما يثير التساؤل في عقول البعض: لماذا لا يحافظ الله على أتقيائه الأمناء؟ في مثل هذه الأحوال يجدر بنا أن نتذكّر أن الكنيسة منذ نشوئها كانت عرضة للاضطهادات، والسجون، والاستشهاد، والمجاعة، والإهانة ولكن "في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا." إن جميع هذه النكبات هي جزء لا يتجزّأ في عملية نموّ الكنيسة، ولم يحدث قط أن فقدت قوتها، وغلبتها حتى في أدقّ الظروف.
لهذا نرى هذه العبارة: "ولكن ليس المنتهى بعد." لأن قلب الله الكبير يظلّ لآخر لحظةٍ يتيح الفرصة للناس لكي يتوبوا ويخلصوا، فدم ابنه المسفوك على الصليب غالٍ عليه جدًا، وقد بذله من أجل خليقته. إن المؤمنين الذين يتعرّضون للموت، ويعانون من المصائب والأضرار ويصبرون إلى المنتهى هؤلاء هم حقًّا أبناء الملكوت، وهكذا ينضمّون إلى المواطنين الذين سبقوهم إلى الأمجاد السماوية. إن الله لم يَعِدْ المؤمنين الحقيقيين بأن لا تعترضهم الضيقات، والمآسي، ولكنه وعد أن يكون معهم في كل حين، لأن العالم الذي نعيش فيه هو عالم موبوء بالخطية والفساد. وهذا الجسد هو دائمًا عرضة للهجمات والضيقات، ولكن الذي معنا هو أقوى من الذي علينا. وهذه الثقة به تمنحنا الطمأنينة والسلام، لأن سلامه الذي يعطيه يختلف كليًا عن سلام العالم المزيّف. وهذا ما اختبره الرسولين بطرس وبولس عندما طرحتهما قوى الحكم الغاشم في السجن فوجدا في سلام المسيح الثقة والارتياح والغلبة وتحرّرا من أغلال السجن رغم أنف الظالمين.